الحنايا المثقلة
حدثتني عند الفجر…أنصتت إليك طويلا، كانت كلماتك تحمل كآبة صامتة فأبيت أن أجتر أحزانك بأي كلمة مواساة رغم تطلعك إلى سماتي كلما أخذك الحديث.
…حين انتهيت، انتظرت إلى أن اختفت تلك العبرات المخنوقة تحت وطأة كلماتك، كانت تنتظر متنفس لها…ربما في نظراتي…ربما في كلماتي التي تتلهفين لها….
- أتدري عزيزتي، سأفعل شيئا و لا تستغربي…(لاحت في عينيك المتعبتين علامات استفهام )…سأعيد سرد قصتك (زاد اتساع عينيك) … بطريقتي…كما أراك وسط ما سمعت منك…أريدك أن تنصتي إلي جيدا…أمستعدة؟
أومأت برأسك….
" – أراه فتى يجوب في المراعي الخضراء…يجري تارة و يخف المشي أخرى…حصان يجوب الربوع….( لمحت لفتة الشجن التي جابت خاطرك)…أراه يملأ الدنيا حياة و أراه يلتفت بين الحين و الآخر لطائر جميل يحلق حوله، أرى شيئا آخر...صورة أخرى تحيي في نفسي أصداء لا أحبها….صورته و هو بمعطف كبير…يفتحه من وقت لآخر و يتطلع جهة القلب…ثم يسدله و تملأ عينيه قسوة غريبة… (هممت بالكلام لكن نظرتي استوقفتك)…لا تقاطعيني و إلا هرب مني حبل…المعاناة
حصانك البري هذا يعرف أين يرتع و أين يضع قدميه و حين يقفز يقع دائما على رجليه …لكن لكل حصان كبوة …و حصانك كبا كبوة في العشب الأخضر…و في كبوته التقت عيناه بعيني طائر جريح …مبلل بندى العشب…كان يرتعش، رق له قلبه و حمله بين يديه…مسح على ريشه و ضمه بين ذراعيه …يدفئه…يخفف من ارتعاشه…يجعله يسكن إليه…وجد الطائر الدفء و وجد السكينة…و رفرف بجناحيه…يريد أن يحلق حوله…يسعده بتغريده… يقف على كتفه…لا يبرحه…و هام…هام إلى اللاحدود
فجأة ….و في حركة خاطفة…تتبلد السماء و يظهر فتاك بمعطفه…يأخذ من بين الحنايا…بندقية…يصوبها جهة الطائر الأبيض …و يطلق…يسقط الطائر وسط العشب الأخضر….في نفس المكان الذي أخذه منه…كأنه لم يبرحه….فقط…استحال الندى…دما
كيف فعل ذلك؟..من أين أتى ذلك المعطف… وكيف خبأت فيه تلك البندقية؟؟؟
جرى الفتى إلى الطائر …انحنى إليه…اقترب بيديه يريد أن يحمله…استوقفته نظرة عينيه…أراد أن يمسح السائل الأحمر من بياض ريشه…لم يجرأ…مكان الطلقة غائر…جذبته نظرته ثانية…بريقهما ينطفئ و الأجفان تسدل و لكنها ما زالت تنظر إليه…هل ما يرى فيهما حقيقة…أفعلا شبه ابتسامة ترسم فيهما…أفعلا تقول " أعرف أنك لم تكن تقصد…لا تلمسني...لم تكن تقصد.."…و ظلت النظرة مستقرة على وجهه إلى أن أسدلت الجفون إلى الأبد.
ما لا يعرف الفتى …أن الطائر لم يحس ألما، لم يحس بتدفق الدماء من الطلقة، ما أحسه هو انحناءته عليه، نظرته إليه، هلعه و ….وجهه…آخر صورة يسدل دونها الأجفان.
لا يعرف كذلك أن الطائر هرب بطيفه بعيدا عنه…كي لا يجعله …بين الحنايا…طلقة أخرى…تزرع …لتصيب."
أخذت يدك بين يدي، أحسست سكونك الجميل، أحسستك طيفا، قلت لك هامسة:
- طيفك ما زال يرسم ألوانا، ربما اختفت إحدى هاته الألوان من لوحتك، أعرف أنها تعجبك…بديعة…لكن من قال أن نبعها نضب، ما زالت قطراته ندية، و قطرة قطرة يحمل الوادي، سيحملك ثانية لمنبع الألوان…كل الألوان، فتجدين لونك.
بقيت ساهمة لدقائق… وحين رفعت عينيك….عرفت انك فهمت قصدي.
فبراير 2008