رأى رجلٌ ربيعةَ بن أبي عبد الرحمن يبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقال: استفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم! قال: ولَبَعْضُ مَن يفتي هاهنا أحق بالسجن من السراق
ذاك الكلام كان في القرن الثاني الهجري، فما بالك بهذا الزمان، حيث أقدم على الفتوى مَن لا علم له بها، ومد باع التكلف إليها، مع قلة الخبرة وسوء السيرة وشؤم السريرة، وهو من بين أهل العلم منكَر أو غريب، فليس له في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف نصيب؟!، وكيف أصبح يُفتِي في قضايا الدين الكبرى مَن لا علم له بالأصول ولا بالفروع، ولم يتصل بالقرآن الكريم والسنة النبوية اتصالَ الدارسِ المتعمق، بل اتصال الخاطفِ المتعجل؟
قال ابن أبي ليلى(1): أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسأل أحدهم عن المسألة، فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول، وما منهم من أحد يحدث بحديث، أو يسأل عن شيء، إلا ود أخاه كفاه!.
وقال عبد الله بن مسعود (2): والله إن الذي يفتي الناس في كل ما يستفتونه لمجنون(3).
وإذا انتقلنا إلى التابعين نجد سيدهم وأفقههم سعيد بن المسيب(4) كان لا يكاد يفتي، ولا يقول شيئًا، إلا قال: اللهم سلمني، وسلم مني(5)!.
وسئل الشعبي(6) عن مسألة، فقال: لا أدري: فقيل له: ألا تستحي مِن قول "لا أدري" وأنت فقيه العراق؟ فقال: لكن الملائكة لم تستح حين قالوا: (سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا) [البقرة:32] (7).
وبعد التابعين نجد أئمة المذاهب المتبوعة لا يستنكفون من قول "لا أدري" فيما لا يحسنونه.
وقد حُفِظَ عن الإمام أبي حنيفة(7) - مع براعته في الجواب، وقدرته الفائقة على الاستنباط والتوليد - مسائل معروفة قال فيها: لا أدري(9).
روى الخطيب البغدادي(10) عن أبي يوسف(11) قال: سمعت أبا حنيفة يقول: لولا الفَرَق (الخوف) من الله أن يضيع العلم، ما أفتيت أحداً؛ يكون له المهنأ، وعليَّ الوِزْر! (12).
وكان أشدهم في ذلك الإمام مالك(13)، فكان يقول: مَن سُئِل عن مسألة، فينبغي له قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب فيها، وقال ابن أبي حسان: سئل مالك عن اثنتين وعشرين مسألة، فما أجاب إلا في اثنتين بعد أن أكثر من "لا حول ولا قوة إلا بالله"، وقال مصعب(14): سئل مالك عن مسألة، فقال لا أدري، فقال له السائل: إنها مسألة خفيفة سهلة، وإنما أردت أن أعلم بها الأمير، وكان السائل ذا قدر، فغضب مالك وقال: مسألة خفيفة سهلة!!! ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قول الله تعالى: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا)، [المزمل: 5]، فالعلم كله ثقيل، وبخاصة ما يسأل(15).
من كتاب الفتوى مكانتها، مزالقها، منهجها الصحيح لعلاء الدين زعتري
قلت: ليتهم في زماننا كأمثالهم في زمانهم
----------------------------------
(1) محمد بن عبد الرحمن، العلاَّمة الإمام، مفتي الكوفة وقاضيها، أبو عبد الرحمن الأنصاري الكوفي، كان نظيراً للإمام أبي حنيفة في الفقه، توفي في رمضان، سنة (148هـ). يُنْظَر: سير أعلام النبلاء، محمد بن أحمد الذهبي، تحقيق شعيب الأرناؤوط، ومحمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة التاسعة، 6/310-316.
(2) أبو عبد الرحمن: صحابي، من السابقين إلى الإسلام، أول مَن جهر بقراءة القرآن بمكة، خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، توفي في خلافة عثمان سنة (32 هـ)، له (848) حديثاً . يُنْظَر: الطبقات الكبرى، محمد بن سعد بن منيع، دار صادر، بيروت، د.ت، 6/13.
(3) إبطال الحيل، عبيد الله بن محمد العكبري العقبلي، تحقيق زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1403هـ، 1/62، وسنن الدارمي، 1/73، وسير أعلام النبلاء، الذهبي، 5/211.
(4) المخزومي القرشي، أبو محمد : سيد التابعين، وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة، جمع بين الحديث والفقه والزهد والورع، وكان أحفظ الناس لأقضية عمر بن الخطاب وأحكامه، حتى سُمِي راوية عمر، توفي بالمدينة سنة (94هـ). يُنْظَر: سير أعلام النبلاء، الذهبي، 4/217 وما بعدها، وتهذيب التهذيب، الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية، حيدر آباد، الهند، 1326هـ، الناشر دار صادر، بيروت، لبنان، 2/28.
(5) فتاوى ابن الصلاح، عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري، تحقيق د. موفق عبد الله عبد القادر، مكتبة العلوم والحكم، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى 1407هـ، 1/15، وأدب المفتي والمستفتي، عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوي، 1/80.
(6) عامر بن شراحيل، الإمام، ، توفي- رضي الله عنه -علاَّمة العصر، أبو عمرو الهمداني ثم الشعبي، وُلِد في إمرة عمر بن الخطاب سنة (104). يُنْظَر: سير أعلام النبلاء، الذهبي، 4/294-319.
(7) إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن القيم، 4/218.
(8) أبو حنيفة النعمان بن ثابت التيمي، إمام المدرسة الحنفية، ولد بالكوفة سنة (80هـ)، ونشأ فيها، وتوفي سنة (150هـ). يُنْظَر: تاريخ بغداد، أحمد بن علي الخطيب البغدادي، دار الكتب العلمية، بيروت، د.ت، 13/323-423، والبداية والنهاية، ابن كثير، مكتبة المعارف، لبنان، مكتبة النصر، الرياض، الطبعة الأولى 1966م، 10/107.
(9) يُنْظَر: سير أعلام النبلاء، الذهبي، 4/302.
(10) أحمد بن علي بن ثابت، الإمام الأوحد، العلاَّمة المفتي، الحافظ الناقد، محدث الوقت، صاحب التصانيف، وخاتمة الحُفَّاظ، وكان من كبار فقهاء الشافعية، له ستة وخمسين مصنفاً، توفي سنة (463هـ). يُنْظَر: سير أعلام النبلاء، الذهبي، 18/270-297.
(11) يعقوب بن إبراهيم: صاحب الإمام أبي حنيفة وتلميذه، وأول مَن نشر مذهبه، وأول مَن وَضَع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة. يُنْظَر: البداية والنهاية، ابن كثير، 10/180 وما بعدها.
(12) يُنْظَر: آداب الفتوى، النووي، 1/16.
(13) الإمام مالك بن أنس الأصبحي، أبو عبد الله: إمام دار الهجرة، وأحد الأئمة الأربعة، مولده ووفاته في المدينة (93-179هـ)، سأله المنصور أن يضع كتاباً للناس يحملهم على العمل به، فصنّف الموطأ، يُنْظَر: صفة الصفوة، جمال الدين ابن الجوزي، حققه وعلّق عليه محمود فاخوري، خرّج أحاديثه محمد رواس قلعه جي، مطبعة النهضة الجديدة، القاهرة، دار الوعي، بحلب، الطبعة الأولى 1390هـ/1970م، رقم الترجمة (189)،2/177 وما بعدها.
(14) مصعب بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، العلاَّمة الإمام، نزيل بغداد، كان أبوه أمياً على اليمن، توفي سنة (236هـ). يُنْظَر: سير أعلام النبلاء، الذهبي، 11/30-32.
(15) يُنْظَر: آداب الفتوى، النووي، 1/16.