قصة قصيرة
ضــــياء اللـــذة
بقلم / د. مصطفى عطية جمعة
أديب مصري مقيم بالكويت
( 1 )
الهجعة الليلية التي يستلزمها الجسد ، وتسبح روحي في فضائها ، لا أعرف كينونتها ، سوى تلك الأخذة التي تجذب روحي ، من عالم الأحياء ،و الحركة والثرثرة ، إلى سُبات الجسد . هل الروح تسكن أيضًا ؟ لا أذكر ، من هجوعي – في ليلتي تلك – إلا هذا التماوج الذي عايشته ، وجوهًا …، نعم .. نعم .. ، لمن أعرفهم ، أحبهم . أبي ، أمي ، جدي …. ، كانوا يبتسمون لي ، يضحكون، تمدّ أمي يديها لي .
أُفْعَمُ بنشوة وراحة ، لذةٍ أستشعرها ، وكأن خلاياي تنطلق في ملكوت سرمدي .
……………
هدأة الليل ، النفوس ، هل تسكن الأرواح ؟
أضع المفتاح في باب المسجد ، أضغط زرًا فيتوهج مصباح . آيات القرآن ، تنساب بحنجرتي ، رطبة ، والفؤاد عائم .
أصدح بالآذان . يأتي عم عبد الرزاق :
- صوتك خافت اليوم يا عبد الحميد ؟!
- إنه مثل كل يوم .
يتفحصني بعينيه ، يصمت ، ويترنم بجواري بأوراده الصباحية . قلتُ :
- ماذا بك ؟
تطلع نحوي ، عيناه غائمتان :
- أنتَ ماذا بك ؟
صمتي ، قلبي منتشٍ . يردف :
- سلّم عليهم .
- ……………؟ !
غاص في تسبيحاته .
اصطففنا للصلاة .
قالوا لي وهم يصافحونني أمام المسجد :
- أطلتَ السجود كثيرًا ؟!
- أخذني الرجاء .
…………………
استيقظتْ أختي ، وأنا ألج البيت . قالتْ :
- صبحك الله بالخير .
- الخير كله لكِ .
- ستفطر ؟
- ……………..
تحركتْ ، متحسسةً ما حولها ، تحفظ أركان البيت ، انزويت في غرفتي ، خرخشة يديها وهي تغسل الآنية ، وتحرّك الوابور .
استلقيتُ على الكنبة ، أسندتُ رأسي ، النشوة تتجاذبني ، تغرقني ، كانوا يبتسمون ، ابتسمتُ ، أسبح في طاقات نورانية ، أتحرر من ربقة الجسد ، أتلاشى .. ، الملكوت يسعني ، أصافحهم .
( 2 )
- عبد الحميد ! الفطور ..
أكرر مناديةً عليه ، لا يحلو الفطور إلا به ، سيحكي لي عما ينوي فعله اليوم ، أتحسس الخبز الساخن، وطبق الجبن القريش والعسل ..
- عبد الحميد ! قم ، الفطور ..
أخذه النوم ؟ أتحرّك ، أدفع باب الغرفة ، صوت خطوي يطرق أذني .
- عبد الحميد .. ، قم يا أخي ..
أتحسسه .
صمتي .
الجسد نصف بارد ، جبهته تترقرق بعرق متجمد .
- فعلتها يا عبد الحميد ؟ فعلتها .. !
الوحدة تتماثل أمامي ، أودُّ الصراخ ، أصرخ ، الصوت بلا صدى . الخواء في أعماقي .
( 3 )
الضجيج والزحام . الناس متجمعون أمام المنزل .
- كان لا يزال في عزه .
- صلّى بنا .
آخرون في ركن وهم جالسون على المقاعد الخشبية المستأجرة :
- لم يتزوج ، وعاش من أجل أخته الضريرة .
- ربنا أعطاه من التجارة كثيرًا .
- يده لم تخرج فارغة من جيبه .
النسوة متشحات بالسواد . يقلن :
- عجيبة أخته ، لم تنحْ عليه ، فقط الدموع ، ولا حتى صرخة !
……………..
تقول أخته :
- ظننته نائمًا على الكنبة كعادته وهو يسبّح ، سبقتني ، وفعلتها ، كنتُ أمني نفسي بأنك لن تفارقني ، وأنا أكبرك في السن ، وستحملني إلى …
……………..
عم عبد الرزاق المطرق تحت شجرة الكافور ، أمام البيت :
- شفتُ البشرى في عينيه ، عقبا لي .
رأس بارز
تتحرك منحدرة من فوق مرتبتها ، تجرّ رجلها الفاقدة الحياة ، وبيدها تضبطها كلما زحفت. صرير باب الغرفة المكتوم ، درجتا سلم حجري تواجهها ، وبصيص من ضوء البكور ، تطالع الملح المتكلس على الحجر والجدران . تلتقط أنفاسها ، تحبو ، الدرجة الأولى ، ثم الثانية ، رجلها معلقة لأعلى ، تسحبها بتأوه خافت . تتشبث بثنيات الباب الخارجي للبيت ، تحرّك المزلاج .
أطلّ رأسها ، البكور ، زقزقة العصافير ، الأرجل تدب في الشارع . يهدمون بيت " نبوية أم شعبان " ، كانت هي وكل إخوتها ، بنسائهم وعيالهم .. ، الأطلال تنحسر عن مساحة صغيرة . كيف كان تجمعهم تلك الجدران ؟ منذ أن ماتت نبوية ، تفككوا ، وصفّى الصغير البيت لنفسه .
عمارة الحاج " جلال " ، خمسة أو ستة أدوار .. ، ترفع بصرها تعدها .. ، سبحان العاطي ، كان مرمطونًا عند المرحوم زوجي .
* * *
من الشرفة ، تقول " أم سيد " :
- شوفي الحاجة " تحيات " ، اشتاقت للشارع .
ترد ابنتها :
- أسمع عنها ..
- مريضة منذ سنين ، وحبستها ابنتها " أحلام " في غرفة تحت السلم .
* * *
من بُعدٍ ، طالعتها إحداهن، وكانت تسير في الشارع ، حاملة قفة خضار :
- شافت أيامًا مع زوجها المعلم " محي " ، عزًا وذهبًا .
رفيقتها ، تنظر للرأس البارز :
- دوام الحال من …….
- أنجبتْ له خمسة رجال وبنتًا واحدة .
- وأين هم ؟
- كل واحد تسيّره امرأته .
* * *
الرأس البارز يستند للباب ، أنهكه التطلع ، بعدما ارتفعت العمارات حاجبة أشعة الشمس ، "الحارة الضيقة نفق ملتوٍ ، يمتليء بالدراجات البخارية المركونة أمام الأبواب " .
كنت أجلس كل ليلة على العتبة قدام بيتي ، وبجواري قلة المياه التي يفوح منها النعناع ، وكوب الشاي ، وأنادي على جاراتي ، ونسمر باللب والذرة المشوية … ، لا مكان لي بين هذه الأعمدة والعمارات . يتراجع الرأس البارز .
* * *
الجارة ثانية لابنتها :
-" أحلام " بنت " تحيات " ، على كل بياضها وشعرها " السايح" ، ركنت جانب أمها بعد زوجين .
- والسبب ؟
- عقلها خفيف ، وفلوس أبيها دلّعتها .
تردف :
- وزوجها الأول أخذ العيّلين منها . فعاشت تناكف أمها .
* * *
تلتقط أنفاسها ، كأن درجتي السلم بناية عالية ، رجلها ثقيلة كالدهر وهي تسحبها . ترتخي الأصابع ، تتنسم هواءً من فرجة الباب ، " تحمل النسمات رائحة الهدم " .
ربما تكون الذكرى أريجًا ، يصاحبني في أويقات الزمن المتسحبة ، وربما تكون المرتبة القطنية ألين من العمارات المتطاولة .
صوت " أحلام " :
- أين أنتِ يا ولـيّة ؟ حبوتِ ثانيةً ؟!
ملحوظة :
القصتان السابقتان من مجموعة قصصية صدرت للمؤلف بعنوان : " طفح القيح " عن مركز الحضارة العربية بالقاهرة . وللمؤلف : نثيرات الذاكرة ، رواية ، دار سعاد الصباح
شرنقة الحلم الأصفر ، رواية ، مركز الحضارة العربية ، القاهرة
ودراسات أدبية ونقدية في مجلات نقدية وأدبية