كانت الطاولة عامرة بكل ما يشتهى ..حتى أنواع المخللات التى يعشقها كانت حاضرة تستفز جوعه..
لم ينقطع الحوار بينهم فى امور السياسة مابين مضغةٍ ورشفة ,,يتخلله تكشيرة بعدها إبتسامة تعلن أن الود باق ..فما بينهم من سنوات لاتفسدهُ عواصف السياسة بكل غبارها..فهو صديق الطفولة لأخيها
سعد..تربيا سوياً فى أحد حوارى مصر القديمة ودرسا علوم القرأن فى حلقات مسجد جامع عمرو بن العاص القريب..خدمته الصدفة والواسطة أن يلتحق بكل الشرطة التى تخرج منها من أربع سنوات بينما أخفق
سعد فرضى بنصيبه مع كلية التجارة..سنوات بعيدة مضت والحب الصامت يربط بينهما لكن النظرات تفضح العاشقين ..الخميس القادم هو حفل الخطوبة كما اتفقا فى شقة عائلته الفسيحة ..أخيراً وأخيراً جداً سيضع
خاتم الخطوبة فى إصبعها لتعلن على العالم حبهما الطفولى ..على الأريكة الإسفنجية جلس يحدثهم عما يلاقونه من مخاطر فى عملهم ..فاليوم مصر مسبحة إنفرطت حباتها بعدما أعلن الجنرال شرعيته العسكرية!..
ربما شعر سعد بمبالغة صديقه وهو يحاول إقناعهم أن عقيدة الشرطة قد تغيرت بعد ثورة يناير وأن الشرطة عادت لتكون فى خدمة الشعب وليس فى خدمة النظام وحاشيته ..ظلت على شفتى أخيها إبتسامة مصطعنة تحاول رسم قناعة زائفة أن مايقوله صديقه هو واقع يعترف الشعب به!..
مع الرشفة الأخيرة من كوب الشاى الدافئ بحرارة الود هب واقفاً على طريقته العسكرية ليعلن استعداده للإنصراف ..عانق سعد وصافح والدته ثم توقفت أصابعه على أناملها فى تحية عاشق يختلس لمسة!..
عند الباب التفت لهم من جديد وعيونه تتفحصهم ثم طلب منهم بالحاح الدعاء.. فبعد سويعات هو فى مهمة خاصة ..
جلس ثلاثتهم يتبادلون حواراً أفصح فيه سعد عن تخوفه من مستقبل أشجان مع صديقه بعد الزواج فرغم الود بينهم إلا أن ما شاهده بأم عينيه من ممارسات لبعض رجال الشرطة يعبث فى صدره بالقلق..
السابعة صباحة كما تشير نشرة الأخبار على التلفاز..كان جاهزاً للإنصراف لنوبة العمل الحكومى لكن الأخبار استوقفته والتلفاز يستعرض لقطات مصوره على الهواء لجحافل الجيش والشرطة وهى تعربد قتلاً
وجرحاً وأسراً وحرقاً فى االمعتصمين..تبدل لونه وكادت عروقه أن تنفجر من نبضه المتسارع ..يضغط بحركة لاإرادية بقبضة يده اليمنى فى كف يده المقابله ثم يتسلل لغرفة والدته حيث يطبع على جبينها قبلة ثم يمنح شعر أخته النائمة إلى جوارها مسحةَ حنان !..
ربما فرحتها التى عاشتها بالأمس وربما لمسة يد أخيها التى أفاقتها مبكراً فى التاسعة على غير عادتها .. تتسلل لتلتقط من المبردة كأس عصير تعودت أن تبدأ يومها به.. ثم تفتح التلفاز كى تتابع أخر أخبار
رابعة.. الصورة ضبابية بفعل كثافة الغازات المسيلة للدموع ..ودخات الرصاص هزتها وهى واقفة حتى استندت على المقعد القريب.. جلست تتابع ودموعها تصارعها وجسدها كله يرتعش من الفزع والألم ..تمضى
الدقائق عليها متسارعة وهى مكومة كقطةٍ شيرازية تتحرش بها الكلاب الضالة فى الشوارع.. ودموعها على خديها بينما فمها لا يكف عن التبتل والدعاء..ظلت على جلستها تلك بعدما إنضمت إليها والدتها ولم
تفيق إلا على الصوت الشجى يصدح من المسجد القريب يعلن عن صلاة الظهر .. نهضت تتكاسل فالأن موعد الصلاة ثم إعداد الغداء فبعد أقل من ساعتين سيعود أخوها كعادته يسأل عن ما يسد جوعه فى نهم قبل
أن ينصرف ثانية فى نوبة عمل بأحد المتاجر القريبة ..
الثالثة عصراً ولم يعد وأمها أعياها الإتصال على هاتفه المحمول لكن دون جدوى..فمعظم خطوط لإتصال على الشبكة إما مشغولة بالأحداث أو مُعطلة من شدة ضغط المكالمات.. وقفت فى شرفتهم إلى جوار أمها
تتابع الجموع الغاضبة فى ميدان عمرو بن العاص بل وتهتف معهم من الدور الثالث ..يسقط يسقط حكم العسكر...
غابت الشمس وكسى الليل بسواده السماء بينما الفزع والقلق والترقب إرتسم وبكل وضوح على ملامحها هى وأمها..
يدق الهاتف المحمول ليعلن عن مكالمة.. تقفز ناحيته بكل شوق ..على الطرف الأخر كان شاباً يتحدث بصعوبة بالغة يبتلع حسرته ويغالب دموعه يخبرها بإستشهاد أخيها أسفل جسر أكتوبر بالعباسية بعدما أصابته
رصاصتين فى الرقبة والصدر...لا العويل ولا النحيب و لاالحسرة إستطاعت أن تعبر عما بهما من صدمة كادت تشق الصدر كطعنة خنجر ..
.إستندت هى وأمها على كتف جيرانهم حتى وصلاً للمشرحة .. جثته كانت غارقة فى الدماء.. لم يتعرفا عليه سوى من إبتسامة تعودوها منه تحت شاربه الأنيق رغم أن الدماء خضبته مع لحيته !...
إحتشد الألاف فى صلاة العشاء بمسجد عمرو ..وما إن فرغوا من الصلاة تهيأوا لصلاة الجنازة..فاليوم فقدت مصر القديمة خمسة شهداء فى المجزرة منهم شيخٌ وشابين وطفل وإمرأة..انتهت صلاة الجنازة وهب
كل فريق يحملون جثمان فقيدهم بينما وقفت أشجان مع والدتها وسط جموع من جاراتهم ينتحبون.. تتقدم إحداهن لتحتضنها بكل حرارة.. ثم تقترب منها وفمها المبلل بالدموع يرتعش.. تحاول أن تبوح ولا تقوى..
تستجمع المرأة قواها مع الصبر ثم تخبرها بأنها قادمة من بيت خطيبها حيث أدت واجب العزاء.. تجحظ عينا أشجان وتتحجر وتقترب أكثر من فم المرأة.. فقد أخبرتها وصول نبأ مصرع خطيبها بعدما إنقلبت به
سيارة الترحيلات بالقرب من رابعة.. تتقطع أنفاسها ويزيد الليل سواداً ثم تتسلل بين النسوة تتمتم وتنتحب فتسقط بين قدمى إمها مغشياً عليها.. تنحنى الأم محاولة رفع إبنتها المنهارة على الأرض دون جدوى..
تلتقط حقيبة ابنتها لتخرج منها بطاقتها الشخصية فتمزقها بأسنانه ثم تنثرها فى الهواء ..
بعدها تسقط الأم على الأرض إلى جوار إبنتها المكلومة.. وكان النفس الأخير فقد فاضت روحها كى تعانق روح إبنها فى السماء !
عمر الصالح
القاهرة 23 سبتمبر 2013