كان وحده.. الشارع خال تماماً من المارة.. أضواء لامعة على الجانبين وسكون لم يعهده من قبل على المدينة الصاخبة .
أين ذهب الناس ؟
في هذا الوقت يومياً يضج هذا المكان بالبشر ، وتختلط فيه أصواتهم وصيحاتهم ونكاتهم وتعليقاتهم السياسية ومصطلحاتهم التجارية ووشوشاتهم الغرامية وثرثرتهم اليومية .
في هذا الوقت يزدحم الميدان بالمارة والباعة والسيارات والدراجات البخارية على اختلاف أنواعها وأشكالها .. وتمتلئ المحلات بالشباب والفتيات والخليجيين والأجانب .. ما الذي حدث؟
أين اختفوا فجأة ؟
توقف بالسيارة الكاديلاك السوداء في منتصف الطريق بمحازاة الكورنيش .. ضغط بعنف على أزرار هاتفه.. حاول مرة ثانية .. جرب مرات ومرات.. اتصل بمن يعرف ومن لا يعرف ، وفي كل مرة يأتيه ذلك الصوت الآلي الرتيب البارد ( الهاتف قد يكون مغلقاً أو خارج نطاق الخدمة )
خرج من سيارته.. دارَ حول نفسه في ميدان الكورنيش.. ماذا ؟
هل أصبح وحده في هذه الدنيا الواسعة ؟
هل فني الناس جميعاً في لحظة واحدة ولم يتبق إلا هو على سطح الأرض ؟
رفع صوته زاعقاً .. ردد في هستيريا كل الأسماء التي خطرت على باله.. نادى على أقاربه وأصدقائه وعلى الموظفين عنده في المؤسسة وعلى الخدم عنده في القصر .
استصرخ الأحياء والموتى .. توسل إلى المشهورين والمغمورين .. استنجد بالقدامى والمحدثين .
البيوت خالية ، يسكنها الصمت.. والشرفات والشركات والأندية والمحلات التجارية .. ما الذي حدث؟ هل اتفق الناس جميعا على أن يلعبوا معه (الكاميرا الخفية) ؟
ماذا أصابهم ، هل أغار عليهم العدو بسلاح كيميائي أو بيولوجي .. إذن، أين رفات الموتى .. أين جثثهم ؟
استقل سيارته التي صارت وحيدة هي الأخرى في شوارع المدينة الخاوية .. وبسرعة جنونية تمنى معها أن يصطدم بأحدهم أو أن يصدمه أحدهم .. أو أن يستوقفه واحد من رجال المرور الذين طالما تكبر عليهم ليسجل عليه مخالفة ويفرض عليه غرامة.. تمنى أن يقابل ولو أبغض الناس لديه وأشدهم عداوة له .. تمنى لو يرى خيال إنسان أو أن يشم رائحة عرق كائن حي .. تمنى لو يعترضه أحد اللصوص أو قطاع الطرق ويخيره بين حياته وممتلكاته.. تمنى لو يستوقفه أحد الفقراء الذين طالما احتقرهم وأعرض عنهم وأغلق دونهم بابه .. تمنى لو يسمع توبيخ أحدهم له ودعائه عليه .
توقف أمام المقهى الأثير لديه في حى الحسين .. أخرج علبة سجائره المستوردة ووضع نظارته السوداء.. ونزل من سيارته بكبريائه القديم .
جلسَ كعادته على كرسيه منتفخاً .. أشعل سيجارته وطلب قهوته وأخذ في الحديث مع رفاقه الذين تخيلهم أمامه .. وارتج المقهى بضحكاته المعتادة الممتدة العالية .. انتفض من مكانه مذعوراً عندما استيقظ على خلو المقهى .. خاف على نفسه الجنون .. نزع النظارة وقذف بالسيجارة على الأرض .. وفي طريقه إلى السيارة مرة ثانية أطاح بموائد وكراسي المقهى الخالية .
توجه إلى قصره .. بحث في كل مكان .. لجأ إلى مؤسسته حيث لم يستدل على أثر إنسان .
توجه إلى الحارة القديمة حيث وُلد وتربى .. اشتم رائحة البؤس التي نسيها منذ زمن بعيد .. أحسَ بأنه يسير وسط القبور .. وبأنه إما ميت لا يزال متعلقاً بدنياه التي فاتها متحسراً عليها ، حيث المتع والنعيم.. وإما أنه لا يزال حياً ولكنه أدرك نهاية العالم أو أصابته لوثة من جنون .
توقف أمام بيت عائلته القديم في أحد الأزقة الضيقة .. لم يصدق نفسه عندما لمحَ شيئاً يتحرك كأنه إنسان جالس على أحد الأرائك الخشبية المتهالكة .
انطلق ناحيته .. توقف خلفه وراح يراقبه في صمت.. انه شبح لا ملامح له ولكنه يتحرك .. يضع شيئاً من الملح الذي أمامه في قطعة خبز ويأكل .
أصابه الفزع من منظر ذلك الكائن الغامض.. فكر في الهرب.. وعندما هم بالرحيل سمعَ من يناديه باسمه ويدعوه للجلوس .
تقدم مرعوباً بقدمين مرتجفتين .. جلسَ على حافة الأريكة خائفا منزوياً .
ألا تعرفني ؟
نظر إلى وجه غائر أسطوري لم يرَ مثله من قبل .. وسأله من أنت .. وأين أهل الحارة.. وأين عائلتي.. وأين الناس؟
لا تسألني عن أحد.. اسألني عن نفسي فقط ؟
إذن من أنت ؟
أنا أحد أصدقائك القدامى .. أنا واحد من أبناء الحارة.. أنا أحد الفقراء الذين طردتهم من قصرك .
ألا تذكر ذلك اليوم الذي جئتك فيه وطلبت مقابلتك.. كان لي طلب واحد فقط .. كنت أحمل أمنية واحدة وحلم بسيط .. سألتني ابنتي عن أصدقائي فذكرتك من ضمنهم.. وذكرت ثراءك وشهرتك.. فرحت ابنتي لأن لي صديق مثلك.. وتمنتْ لو نقوم بزيارتك ونقضى يوماً كاملاً في قصرك ونتناول غذاءً فاخراً في حضرتك.. ألا تذكر؟
يومها رفضت حتى رؤيتي .. وعدتُ أنا إلى ابنتي التي سألتني عن موعد الزيارة.. فلما أخبرتها بما حدث ، عيرتني بك.
تقابلَ الوجهان فى نظرة تاريخية ، عينا بقايا انسان تنزف خزياً وشكوى جارحة أمامَ عينى آخر انسان على الأرض .
قامَ الرجل الشبح.. وسار في الزقاق الضيق إلى أن اختفي عن الأنظار .. اختفي هو الآخر مثل الباقين .. وتركه وحيداً خائفاً منزوياً على الأريكة المتهالكة .
اختفي الشبح وترك له الدنيا .
تركها له وحده .
تجمدَ في مكانه ، وشيعَ الشبح بنظرات يائسة.. وتمنى لو بقى معه قليلاَ ليحدثه ويؤنسه .. وليأكل معه ( عيش وملح )