صحيح مسلم
وحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ قَالَ: غَلَبَ عَلَى الْكُوفَةِ رَجُلٌ قَدْ سَمَّاهُ زَمَنَ ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَأَمَرَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَكَانَ يُصَلِّي، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَامَ قَدْرَ مَا أَقُولُ: اللَّهُمَّ، رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءُ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءُ الْأَرْضِ وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ.
الشرح من "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي" للمباركفوري
(لَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ) بِفَتْحِ الْجِيمِ فِي اللَّفْظَيْنِ أَيْ لَا يَنْفَعُ صَاحِبُ الْغِنَى مِنْك غِنَاهُ إِنَّمَا يَنْفَعُهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ . قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: قَالَ الْخَطَّابِيُّ الْجَدُّ الْغِنَى وَيُقَالُ: الْحَظُّ. قَالَ : وَمِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْك بِمَعْنَى الْبَدَلِ قَالَ الشَّاعِرُ: فَلَيْتَ لَنَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً مُبَرَّدَةً بَاتَتْ عَلَى الظَّمْآنِ يُرِيدُ لَيْتَ لَنَا بَدَلَ مَاءِ زَمْزَمَ اِنْتَهَى . وَفِي الصِّحَاحِ مَعْنَى مِنْك هُنَا عِنْدَك أَيْ لَا يَنْفَعُ ذَا الْغِنَى عِنْدَك غِنَاهُ, إِنَّمَا يَنْفَعُهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ. وَقَالَ اِبْنُ التِّينِ: الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَعْنَى الْبَدَلِ وَلَا عِنْدَ، بَلْ هُوَ كَمَا تَقُولُ: وَلَا يَنْفَعُك مِنِّي شَيْءٌ إِنْ أَنَا أَرَدْتُك بِسُوءٍ, وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ كَلَامِهِ مَعْنًى, وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهَا بِمَعْنَى عِنْدَ أَوْ فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ مِنْ قَضَائِي أَوْ سَطْوَتِي أَوْ عَذَابِي. وَاخْتَارَ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ فِي الْمُغْنِي الْأَوَّلَ, قَالَ: وَالْجَدُّ مَضْبُوطٌ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَمَعْنَاهُ الْغِنَى أَوْ الْحَظُّ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ بِالْفَتْحِ وَهُوَ الْحَظُّ فِي الدُّنْيَا بِالْمَالِ أَوْ الْوَلَدِ أَوْ الْعَظَمَةِ أَوْ السُّلْطَانِ, وَالْمَعْنَى لَا يُنْجِيه حَظُّهُ مِنْك وَإِنَّمَا يُنْجِيه فَضْلُك وَرَحْمَتُك. اِنْتَهَى كَلَامُ الْحَافِظِ مُلَخَّصًا. قُلْت: فَالْجَدُّ بِفَتْحِ الْجِيمِ هُوَ الرَّاجِحُ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْجدُّ بِكَسْرِ الْجِيمِ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ أَنَّهُ رَوَاهُ بِالْكَسْرِ كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ، وَلَا يَسْتَقِيمُ مَعْنَاهُ هُنَا إِلَّا بِتَكَلُّفٍ, قِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يَنْفَعُ ذَا الِاجْتِهَادِ اِجْتِهَادُهُ وَأَنْكَرَهُ الطَّبَرِيُّ. وَقَالَ الْقَزَّازُ فِي تَوْجِيهِ إِنْكَارِهِ: الِاجْتِهَادَ فِي الْعَمَلِ نَافِعٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ دَعَا الْخَلْقَ إِلَى ذَلِكَ فَكَيْفَ لَا يَنْفَعُ عِنْدَهُ. قَالَ: فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ الِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَتَضْيِيعِ أَمْرِ الْآخِرَةِ, وَقِيلَ: لَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ بِمُجَرَّدِهِ مَا لَمْ يُقَارِنْهُ الْقَبُولُ, وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ.