ساعتان فحسب تفصلانِـه عنْ لقائهِ المنتظر بخطيبته.. وحالتان من الشوق والتوجّس تعتملان في صدرهِ قبل اللقاء مما جعله فريسةً لتردده.. يالتساؤلاتها تلك التي باتت تحاصره في زاوية ضيقةّ..! وتكبتُ عليه أنفاسه.. ..ترتيبات حفلة العرس .. الشقة ..الأثاث ...الخ.... والأشقّ على نفسه انها تمتلك الإجاباتِ وتعلمُ قلةَ ذاتِ يده...لكنها، وربما بعد إلحاحٍ وتأليبٍ من ذويها لم تعد تتفهمُ هذه الظروف وقد امتدت فترةُ الخطوبةِ الى عامين..
أخيراً حزم أمره وقررالذهاب ..أحكمَ أزرار معطفِه ..شدَّ ربطة عنقه بقوةٍ كمنْ يُعاقبُ نفسه..أخذَ مسحةً من العطر..ألقى بنظرةٍ أخيرةٍ على المرآة.. وقبل أن يغادرقبّل يدي أمّه العجوز التي أمطرت جفافَ روحه بوابلٍ من دعائها..لكنّ أفكارُه القلقة لا زالت تسابقهُ الخطى الى محطةِ نقلِ الركاب ومنها سيستقلّ حافلةً إلى المدينة المجاورة حيث بيت خطيبته.
إزدحامٌ شديد .. شوارعُ ضيقة تعجّ بالمركبات والحافلات وتفيض بالمارة والباعة على الأرصفة.. ترددٌ يستوقفه مرةً اخرى قبل أن يبتلعه الزّحام .. يحدثُ نفسَه ..هل أذهبُ لأواجه تلك الأسئلة المقيتة أم أعود أدراجي..؟ تأمّل مشهدَ رجلٍ وامرأتهِ يسوقان طفلَهما الباكي ويشدّانه بعدما تعلقت نفسُه بدميةٍ عُرضت على الرصيف.. ..حمل المشهدَ وركبَ به بساطَ أفكاره بعيداً نحو مستقبلٍ يجهلُ تفاصيله ..ثم عادَ إلى حيث هو وأطلق تنهيدة .. استعرضَ في داخله ما سيجيبُ به تساؤلاتِ خطيبته وما سيسوقهُ من مبرراتٍ يطلبُ فيها تأجيلَ العرسِ شهوراً أخرى....انتبه إلى صوتٍ حاد يهتف به..
- تفضّل يا أستاذ .. نحن بانتظارك...!
تتبعَ مصدرَ النداء ..كانت مركبةٌ تحملُ لوحةَ ترقيمٍ حكومية..وقد خرجت من شباكها يدٌ تلوحُ لهُ أنْ يصعد ،
ظنّ أن سائقَ السيارة إنما يستغلها في توصيل الركابِ بالأجرة ...وجدَ باب السيارة الخلفيّ يُفتح ..وبلا كثير من التردد .. صار داخل المركبة التي بدأت تتسللُ شيئا فشيئاً بعيداً عن الزحام إلى الطريق السريع..
- أهلاً أستاذ" نبيل" .. بقي على المؤتمرأقلُّ من نصف ساعة ، وسعادةُ الوزير شارفَ على الوصول....وبما أنكَ أحد المتحدثين ..كان لا بدّ من انتظارك ..قالَ الرجلُ في المقعدِ الأماميّ.
.. ومن نبيل هذا .؟.-يحدثُ نفسه- لا لا ...لا بد أنه سوء فهم ..لا بد أن أخبرهم..
- عفواً سادتي .. أنا ..
لم يستكملْ جملتهُ حتى تدخلَ السائق : لا عليك ..لستَ وحدكَ من تأخّر ..أردف قائلاً..يقال أنّ سعادتهُ منذ أن تولى الوزارة وهو مهتم بشؤون الشباب..راحت علينا..
قرر أنْ يستسلم لهذه المغامرة .. سيّما وقد ابتعدت السيارة الآن كثيراً عن محطةِ النقل ....تذكرَ موعدهُ مع مخطوبته .. لعلّ توجسََه ُمن هذا اللقاء ساقهُ إلى الصعود في السيارة ...
توقفت الرحلةُ عند المجمّع البلديّ ..حيثُ المسرحُ وقاعةُ المؤتمرات ..لطالما منّى نفسه بدخولها ..قاعةٌ مكيّفةُ الهواء ..شاهقةُ السقف.. مفروشة بالسجّاد .. مقاعدُ وثيرةٌ تُطوى..كاميراتُ تصوير ..وإلى جانبها كاشفاتٌ تسلّطُ أنوارَها على وجوهِ الحضورِ ثم تتوقفُ على وجهِ سعادة الوزير الذي اعتلى المنصة متوسطاً رجلين ...بالكاد كانت رؤوسُ المتحدثين على المنصة تبرزُ من بين باقاتٍ كثيفةٍ من الزهور ملأت المنصةَ حتى غمرتهم، فكانت تلك الرؤوس في حركتها تظهر وكأنها دبابير .. ومن خلفهم ظهرت لافتةٌ عريضة سُطّرَعليها :" الشباب وتنمية المجتمع.."
أجالَ الشابّ بصره الذاهل في الحاضرين .. رجالٌ ونسوةٌ متأنقون.. اشرأبت أعينُهم نحو المنصة حيث سعادته.. حمد الله أنه جاء ببذلته التي لا يمتلك غيرها ..أحسّ لحينٍ بالانهزام والضعف .. توارى خلفَ ستارِ ذكرياته ينقّب بحثاً عن أي حدثٍ أو موقف يقنعُ به ذاته أنه يمتلكُ شيئاً من الثقة كما الحاضرون ..أو على الأقلّ ليس أدناهم درجة ..ثم بدأت مراسمُ المؤتمر..
تحدثَ الرجلُ على يمين الوزير بإيجاز ..ثم تكلمَ سعادتُه .. جاءَ بمصطلحاتٍ لم يعتدْ عليها الشاب.. .".بيروقراطية" .."تساوي الفرص" .."توازن اداري" ..".سلّم وظيفي " ولعله لم يع ِ من الحديث شيئاً ..إلا انّ ما راق له أن سعادته كان يوزع ابتسامتَه على أرجاء المسرحِ بالقسط ..
أشار سعادتُه بيديه فأشار مَن على المنصة بأيديهم وصفقَ الحضور ....ابتسم.. فضحكوا ..هزّ رأسه ..صفق الحضور مرة أخرى .. تناغمٌ جميل سرّه أن يراه ..أخيراً طوى الوزير الأوراق ..رفع حاجبيه ..
-أريد الآن أن استمع للشباب..قال الوزير
قام أحدهم وتحدّث ..ثم قام آخر ..ثالث ..رابع..
كانَ لا يفقه كثيراً مما يقولوه.. أخذتهُ غفلةٌ ساقته إلى هناك ، إلى بيت خطيبته ..تخيلَ عمّه – حماه- يحاصرهُ بأسئلته.. ..يقرّعه.. ويتوجه بأصابعه نحو عينيه حتى تكاد تلامسهما ..
انتبه فجأةً إلى النور الكاشف وقد سُلطت الكاميرات عليه ..والأنظار ها هي تتجمع ثم تتجه نحوه.. وكأنها ساعة الحساب ..هنا تصببَ عرقُه ..
-.تفضل يا أستاذ ..كلمتك الآنّ !
وقفَ وقفةََ من سبقه من المتكلمين ..رسمَ ابتسامةً مرتبكةً على وجهه...دارَ برأسه ليوزعها على أرجاءِ القاعة اقتداءاً بسعادته ..تلعثمَ بداية الأمر ثمّ خرجت هذه الكلمات : الشقة .. حفلةُ العرس .. طقمُ الذهب ..دمتم لنا سعادة الوزير ..! أحسّ هنا بقرصةٍ تبعتها همسة : أقعدْ .. فضحتنا..!..فجلس..
سادَ صمتٌ لبرهة ..همهمَ البعض ...همسةٌ أخرى ضاحكةٌ اقتحمت مسامعه : ههه ..من هذا ؟
تداركَ عريفُ الحفل الموقفَ بعد أن ابتلع ريقَه : أحسنت يا أستاذ..، انها ولا شكّ واحدة من التحديات التي تواجه الشباب..الزواجُ واشكالاته ..هنا تدخل الوزير :
- ومن أجلِ تجاوزِ هذه المشاكل لا بدّ منْ حوارٍ مُجتمعيّ جادٍّ يتوّج بقرارات .. أليس كذلك؟
- بالتأكيد..سارعَ عريفُ الحفلِ بالجواب.. هزّ مَنْ على المنصةِ رؤوسَهم ..صفّق الحضورُ مرةً أخرى..
فُضّ المؤتمر.... بدأ الحضورُ بالانصراف ..جلبةٌ هناك على بابِ المسرح ..
- يا أخي أنا نبيل ..صدقني ..وهذه الكلمة التي كنتَ سألقيها مكتوبة على هذه الورقة .. حفظتهاغيباً..
بخفةٍ انسلّ خارج الصفوفَ ..تنفسَ الصّعداءَ عندما أصبحَ خارجَ أسوارِ مبنى المسرح البلديّ .. أطلق قهقهةً في الهواء أخرج معها انقباضه والضيقَ الذي لازمه هناك .. انطلقَ رنينُ هاتفه المحمول ..
- ما هذه المفاجاة الرائعة .....كم انا فخورةٌ بك ...! كنّا نتابع النقلَ المباشر للمؤتمر....ووالدتي تعدّ لك الآن طبقاً من الحلوى..لا تتأخر! نحن بانتظارك..والأهمّ من هذا كلّهِ أنّ والدي وافق على منحك مهلةَ ثلاثة شهورٍ أخرى تتدبرُخلالها أمورَك..
- ههه .. سيكون الحوارُ المجتمعيّ قد انتهى..بل وتوّجَ بقرارات ...أنا قادمٌ ياعزيزتي...