طرقات تخبط في رأسي , تبحث في تلا فيف العقل, والقلم قد
جف، أحركه على الورق فيقطر صمتاً ـ الرغبة في الكتابة تملؤني ..
تتملكني..تنقصني الفكرة ـ أجول بحثاً في زوايا النفسِ, أراجعُ مخزونَ
العقلِ.. أتجولُ بين كل ما اختزنت من تجاربِ وقراءاتِ وثقافاتِ.. تتبدد كل
الأفكار،تطيرُ محلقة ثم تتساقط كقصاصات ورق بيضاء تملأُُ الفضاءِ.
أعصرُ القلمَ بين أصابعي عله يضغط على شراييني فتنهمر الكلماتِ ـ لكن
كل ما حولي خواء، جفت فجأة ينابيع الإلهامِ تاركة الرأسَ تجويف خاوي
كالصحراءِ. أتساءلُ في حيرةٍ : أين ذلك الخيال الجامح الذي جعلني أتربع
على عرش الأدب؟؟ لأصبح من أشهر الأدباء.
يصرخ هاتف في داخلي .. أنت السبب ـ أنت من تحبس نفسك بين الجدران
تريد أن تصنع قصصاً من نسج الأوهام ـ والأدب نتاج تفاعل حي وتجارب
حقيقية و.. لم أكن أتحمل نهر أو زجر ـ أحسست أني أكاد أجن ، اختنقت
أنفاسي ـ كظمت حنقي ونزلت مهرولاً أهيم على رأسي في الطرقات
وظللت أسير بلا وعي لأجد نفسي في سوق شعبي كبير ـ أخترق الزحام
أرتطم بالمارين ، أصواتهم تتداخل ، وروائح مختلفة تتداعب أنفي ( سمك
وشواء وقلي وبخور فتستدر شهيتي ـ أخذت أتحدث إلى الباعة وأساومهم
وأنا أتفرس في ملامحهم.. وجوه كثيرة بعضها ينطق بالبراءة و الطيبة,
وأخرى عدوانية شريرة ـ اقتحمت مشاعرهم وأحاسيسهم ـ بدأت
السنة حالهم تتحدث ـ كل ينادي على بضاعته يعيش حلمه ..
تشابكت الأصوات في ضجيج غريب , وفي أعماقي بدأت أشباح تجول في خيالي،
وأخذت فكرة تختمر في عقلي ـ سمعت شخوصها التي ولدت تتحدث ، تتصارع ـ
والفكرة بدأت تتبلور، والصورة أخذت تتضح. أين أوراقي وطاولتي لأرسم بالكلمات
تلك الوجوه,وأكتب ما يختلج في نفوسهم ـ أردت أن أخلق على الورق الأبيض عالما ينبض بالحياة.
قفلت راجعا وأنا في طريقي للمنزل أخذت الصورة تفر من رأسي حتى أوشكت أن تغادرني
تملكني الخوف من أن تهرب مني الفكرة ـ ظللت أتجول
في الطرقات حتى تبلورت تماماً في رأسي فعاد الحديث من جديد.
يا ألهي لابد من القبض على هذا الحوار قبل أن أفقده إلى الأبد ـ
أوقدت مصباح مخيلتي..فتحت مسجل هاتفي النقال، وأخذت أردد الحديث
الدائر بين الشخصيات بصوت عال ـ كل بصوته الذي تصورته له..
انهمكت .. علا صوتي بحماس ـ والسعادة تغمرني ـ تدغدغ أعصابي
المنهكة.. بعد طول بحث انسابت القصة تجري في يسر..
وفجأة .. تسقط كف كبيرة وغليظة على كتفي , تضغط على ذراعي
تمسك بتلابيبي , أسمعه يقول محدثاً شخصا ما في اللاسلكي : تمام يا أفندم
قبضنا على المجنون الهارب وتحفظنا عليه.