الغرفة الباردة ..
.
أمسكت الكتاب بين يديها.. اغتالتها الكلمات.. قتلتها الحروف.. شنقتها السطور وما خلف السطور..
تمادت..
فأقحمت أنفاسها هناك.. بين الأحداث.. وراء المستور والمخفي وراء الجدران والأسوار..
انسابت رويدا رويدا.. تنغرز بسكون.. بصمت غريب يبيح التداعي
هاهي تتحرر من عقدة الواقع.. تنبثق من قيد الأنا والآخر.. تتلاشى وتتلاشى.. لتقع هناك.. بين الحدود..
تأملت ما يحيطها.. لا شيء .. خواء.. مساحة ممتدة.. بيضاء .. كل شيء أبيض لا تتبين شيء من فرطه.. عادت تتلمس الطريق.. عل حاسة اللمس تريها ما عجزت عيناها عن رؤيته
تتخبط هنا وهناك.. لا شيء يظهر سوى البياض القاحل.. سوى الصفاء الموحش..وبرد يتخلل الثقوب.. بين لحظة وأخرى ترفع رأسها للأفق.. فلا تراها السماء.. بل سقف ابيض الأكيد ليس بسحاب
ما هذا؟
أهي داخل غرفة مغلقة باردة .. أهي بمختبر تجارب.. أهي بحلم لا يحوي ألوان.. ولا أشكال.. أ ربما كوكب مختلف.. لا يضم زرقة ولا تراب .. خضرة ولا معالم
أعياها التساؤل.. أنهكها البحث
فاستسلمت..
لوهلة سمعت صوت يتناهي عبر اللبنات.. يخترق القرميد.. حفيف عجيب يحيطها.. خرير مسموع يلفها فيبيح الرعشة.. ويبرز النشوة بامتداد التحكم
سألت ملتاعة من الاحتلال......
_ ما هذا ؟؟.. ما أنت؟؟
أجاب الصوت بصدى يتكرر ويعاد..
_ أنا؟ أنا أنتِ .. أنا من تبحثين عني في كل كتاب
اقتربت من الحائط الجامد.. ألصقت أذنيها عليه.. لتسمع أوضح همست باندفاع متردد:
_ أأنت سيرانوا..؟ أندرو..؟ هاستنجز..؟ لورنس..؟ أيعقل أنت كريفيوس.. أو لونروت؟؟؟..............
_ نعم أنا كلهم ويزيد
_ تعال أريد أن أراك.. طالما حلمت أن أتأملك.. تخيلتك كثيرا حتى شكلتك دون ملامح.. تخيلتك كثيرا حتى أبعدت عنك الحروف والكلمات.. وكل ما من شأنه أن يجسدك.. اظهر لي.. أريد أن أراك ولو لوهلة
_ أخاف أن يخيب ظنك.. فتنهار المعتقدات
_ ولمَ يخيب ظني.. أ ولستَ بطلي.. هيا لبي شوقي وتوضح لي كصورة .. أرغب رسمك.. أتمنى لمسك ........... فهل لكَ شكل أم أنت كما تصورتك بلا ملامح.. بلا عنوان بلا نوافذ بلا فؤاد..؟
_ حسنا سأظهر لكِ لكن كما ترينني أنتِ ثم بعدها أظهر على حقيقتي
_ اتفقنا.. لكن كيف أراكَ أنا؟
_ ترينني طيف.. شبح جميل يراودك.. يحيطك.. يحميك.. تحبين أن تسميه ملاككِ الحارس..
_ تماما.. كيف عرفت كل هذا؟
_ لا ني حقا كذلك.. وأنتِ لي نفس الشيء
_ حقا؟؟
_ أجل
_ اقترب مني.. أريد أن أحس بوجودك.. أن أشعر بأنفاسك هنا.. أن أهيم بك.. هيا تعال إلي.. خذني لمجالك.. خذني إليك.. هيا خذني لم أعد أريدني.. تسرب عبر مسامي.. اقتحم حدودي.. يسر الطريق إلي
واليك..........
_ لأحقق لكِ الاقتراب يجب أن أظهر كما وعدتك
_ هيا لا داعي للانتظار أكثر.. اظهر.. لا تتأخر
_ ها أنا تأمليني
_ أين؟
_ داخلك
_ لا أراك
_ لا وطن لي سوى أعماقك.. أنا أسكنك منذ أن أنجبتِني للحياة
_ لاااااا........
_ أنتِ كونتني.. أنتِ خلقتني من لاشيء
_ لاااااا.........
_ أنتِ سيدتي وملكتي.. بدونك لن أكون.. وليس لي وجود
_ لااااا..........
_ لكِ وحدك الفضل في ولادتي من رحم العدم.. صنعتني خيوط من حروف.. كلمات.. وسطور.. شكلتني طيف.. صورة.. شبح.. جسد
_ لاااااااااا.. أنت مخطئ.. كاذب.. خائن.. غدار.. أنت حقيقة ولستَ سراب.. أنت ...... لن تستطيع أن تفعل بي هذا.. وثقت بك.. لن تخذلني.. حلمت بك .. لن تخيبني.. أنت موجود.. كلهم حاولوا ثنيي عن فكرة وجودك..
لكن أنا لهم.. أبعدتهم عني.. حتى لا يبعدوك.............
كيف تأتي الآن وتسحقني بكلمة واحدة صادرة منك؟؟؟
_ لأنها الحقيقة..
_ لاااااااا...... ليست الحقيقة.. أنت الحقيقة الوحيدة.. قل أنك موجود.. قل أنك لي..
_ ...........
_ قل أنك ستضل معي.. تحميني ترعاني., تلفني تضمني.. قل أنك ستضل ملاكي الحارس,, هيا قل.......
_ لن يفيد القول..
_ تبا لك.. تبا لي..............
دارت في الغرفة.. كالثملة.. تضرب بيديها الهواء.. تكسر بمعصمها اللاشيء.. اقتربت من الحائط.. تهاجمه بيديها., ورأسها وقدميها.. ضربات عنيفة.. يهتز لها جسدها بقوة..
_ سأحطمك كما حطمتني.. لماذا طعنتني هذه الطعنة النجلاء.. يمم طريقي إليك.. إما أن أضفر بك.. وإما أن أقتلك.. ثم اقتل نفسي ..
زادت حدة العنف..والثورة.. جرفها الغضب.. ولم تعد تدري ما تفعل غير التحطيم
فُتحت الغرفة بمهل.. أقبل شخصان بثوب أبيض كلون الغرفة دون هرولة.. وكأنهما ألفا موعد الثورة هذه .. واحد أمسكها من رسغها تبثها جيدا.. والآخر البسها القميص
وليس أي قميص
ذاك الذي يرتدى بالمقلوب
بعد نوبة مقاومة أخيرا استسلمت حقنت بإبرة.. وذهبت بعيدا.. حيث النوم..
حيث.. الحلم .
.