معينةُ الدَّمعِ
رفعَت رَأسَها، تَنظرُ حالمَةً، راضيَةً بما قسمَهُ اللهُ لها، تُردِّدُ "لا حولَ ولا قوَّةَ إلّا بِالله"، تبدو كأنّها في يوبيلِها الثالِثِ، قمريَّةُ التّصويرِ، طلقَةُ المُحيّا.
تنظُرُ إلى صورةٍ أخيرَةٍ خلَّفَها الدمارُ لها.
التصقت المسبحَةُ تأبى مفارَقَةَ يدِها، وأناملُها تداعبُها، تجرّعَت من العِلمِ الكَثيرَ رغمَ أنّها في الثُلثِ الأوَلِ من مشوارِها التَّدريسيِّ.
الأَدَبُ حشوُ ملابِسِها، حِجابُها، عفَّتُها، وحسْنُ أخلاقِها يُشمَّرُ عنهم حينَ اللِّقاء.
دمعٌ معينٌ، يُمسَحُ من على وجنتَيها الوَرديَّتينِ، تارَةً بيدِها وتارةً بيد خالتِها أو عمَّتِها.
أنينٌ خفيفٌ يعلو المكانَ، تركَت هذا المكانَ واضعةً المسبحَةَ على منضَدَةٍ خشبيّةٍ يعلوها لوحٌ منَ الرُّخامِ، حين تلامَسَت الأحجارُ واللّوحِ صمتَ الأنينُ المُبهَمُ.
تلاحِقُها أعيُنُ الجالِسينَ، تمرُّ أمامَهُم ببطءٍ تمامًا مثلَ ذاكَ اليوم، ترتفِعُ المسبَحَةُ في يدي جدّتِها، يعودُ الأنينُ، ثم تختفي الفتاةُ عندَ نهايَة الرِّواقِ.
جَلسَت على سريرها، ولَم يَبقَ سوى يدِها لتَمسَحَ دمعَ عَينَيها.
أضاءَت شمعةً بينَ مسارب ذكرَياتِها عساها تُضيءُ لها أرشيفَ ما تَذكُرُهُ، تصفُّحٌ، تَقلُّبُ أوراقٍ، مَسحُ غبارِ الدَّمارِ المنطلقِ من كُلِّ صورَةٍ ماسيَّةٍ برّاقة.
دَمعٌ رقراقٌ ازدادَ عندَ مشهدٍ، عندَ سيمفونيَّةِ الكمانِ، تسمَعُ من خِلالِها صوتَ أبيها يَطلُبُ منها الخروجَ من الدّمارِ، فَتَخرُجُ لتحيا، ويدخُلُ للجنَّةِ إنْ شاءَ الله.
ذابَتِ الشَّمعَةُ وصوتُ السمفونيَّةِ ذاتُهُ.. بألَمٍ نامت، وتستيقِظُ على صوتِ "الله أكبَرُ، الله أكبَر". تخليلُ الماءِ بينَ أصابِعِها، صوتُ حزنٍ في مَضمَضَتِها، لِبسُها للحجابِ، واستقامَتُها، دعاءُ الأحبَّةِ للأحبّةِ في سجودِها، رقَّةٌ مُتناهيَةٌ في الإيمانِ.
شهمَةٌ كعادَتِها، خلقٌ لو مُزِجَ به البحرُ نفى ملوحتَهُ، يستحطُّ العصم بظَرفِهِا، عذبَةُ المساغ، أبَت الاعتِراضَ على قدَرِ اللهِ، ولم تَحزَن، "فإنَّ معَ العُسرِ يسرًا".
يا أيّتُها الرَّقيقَةُ، يا ابنةَ عروسِ البَحرِ، ارفعي رأسَكِ عاليًا يا مَن نَقرَأ في وَجهِها صحيفَةَ حُسنِ الشِّيمِ، وليَكُنِ اللهُ معَكِ.
فائضةُ الدَّمعِ هي، تمسَحُ دَمعَها بيدِها، و"الحمدُ للهِ" بنتُ شفَتِها، وعيناها معلّقتان على صورَةِ الحائِطِ من بعدِ الدَّمارِ.
إنَّ الله معكِ، فاصبِري وصابِري يا ابنةَ عكّا الصّامِدة...