ربطة عنق .. للأديب حسام القاضى
( 1 )
- آسف جداً لن تستطيع الدخول.
- لم ؟ معي تذكرتي و
- الأمر لا علاقة له بالتذكرة إنه...
- كيف ؟ أليست التذكرة هي شرط الدخول الأساسي؟
- لا هناك شروط أخرى أهم.
- مثل ماذا ؟
- لا داعي للسخرية. اقرأ إعلاننا الموجود بالمدخل هناك.
- ولم لا تخبرني أنت بدلاً من ذهابي وإيابي ؟
- الأمر لله .. ممنوع الدخول يا سيد من دون ربطة عنق.
- ربطة عنق! ولكن هناك من دخل من دونها الآن ، بل وبدون حُلة.
- هؤلاء أجانب ولا نستطيع أن نملي عليهم شروطنا.
-منطق غريب ، هناك يجبرون الغريب قبل القريب على احترام شروطهم بينما نحن ..
- ألا ترى أنك تعطلني عن أداء وظيفتي ؟ أفسح الطريق لمن خلفك ليستطيع الدخول.
- ولكني أريد الدخول.
- إذاً لا بد لك من ربطة عنق.
- كيف ؟ ألا ترى عنقي ؟
- لا دخل لي بعنقك.
- كيف ؟ ألا ترى هذا التضخم كيف أحيطه بربطة عنق ؟ بل كيف أحيطه بياقة قميص من الأصل ؟
- قلت لك لا شأن لي بهذا.
- كيف ؟ لقد أصبحت هكذا من أجلكم، ومن أجل أبنائكم وأحفادكم و
- ما هذا الهراء؟ من أجل من؟ أنا لم أرك من قبل، ولا أعرفك .. كفاك هذياناً وابتعد قبل أن أطلب رجال الأمن.
- أنا لا أهذي إنها الحقيقة ، وقد كنت على استعداد لما هو أكثر من هذا، وما زلت وعن طيب خاطر.
- وهل طلبنا منك ذلك ؟ هل رجوناك ؟ أم قبلنا يدك؟
- مثلي لا ينتظر طلباً أو رجاء بل يلبي نداء الواجب دون وجل أو تردد.
- ها أنت قد قلتها ، الواجب إذاً كان هذا واجبك فلم تعيرني به الآن؟
- أنا لا أعيرك ولكن أذكرك.
- أنا شخصياً لم أطلب منك أن تذهب، وعليه فأنا لست مسؤولاً عما حدث لك والآن انصرف وإلا
- كيف من حقي أن
- ألقوا بهذا الرجل خارجاً.
(2)
أزيز الطائرات فوق رأسه... قنابل متساقطة... شظايا متطايرة في كل اتجاه... رائحة اللحم البشري المحترق تزكم الأنوف. دُمرت كتيبته بالكامل. مات كل شيء إلا هو وجهاز اللاسلكي... صفير ضعيف ينبعث منه:
- فهد ينادي نمرا... فهد ينادي نمرا... حول.
بصعوبة بالغة انتشل ساقه الجريحة المغروسة في الرمال:
- نمر معكم. حول.
- كم عددكم؟
- واحد.
- ماذا؟
- دُمرت الكتيبة بالكامل.
- من أنت؟
- رقيب مجند ().
-هل يمكنني الاعتماد عليك؟
- بإذن الله.
- أريد تعطيل قوات العدو المتجهة للشرق بعض الوقت.
- عُلم.
- وفقك الله.
كمارد جريح هب متنقلاً من مدفع إلى مدفع متولياً دور الناقل والمعمر والرامي.
(3)
من بين الكتل البيضاء المحيطة به جاءه صوتها:
- حمداً لله على سلامتك يا بطل.
- أين أنا؟
- في أمان. لا تحاول تحريك عنقك.
- أشعر بآلام شديدة.
- سترتاح بعد هذه الحقنة.
- ماذا حدث؟
- لقد وجدوك معانقاً لماسورة المدفع المنصهرة من شدة الضرب.
(4)
- لا حل لي سوى الهجرة.
- ...
- جحود في كل مكان.
- ...
- لا أمل في تحسن الأحوال.
- ...
- الحياة هنا أصبحت لا تطاق.
- ...
- لا معنى لكلمة وطن. إنه لفظ أجوف.
- ...
- الحمقى فقط هم الذين ينخدعون بهذه الشعارات البراقة.
- ...
- فلتسقط تلك المبادئ التي تقود صاحبها للدمار.
- ...
- من ؟ لا أهل لي. لقد توفيت زوجتي وابنتي. لم أجد نقطة دم واحدة لإنقاذ حياتهما.
- ...
- أية ظروف؟ إنه الإهمال والجحود.
- ...
- قلت من قبل ليس لي أهل.
- ...
- لم يعد هناك مصريون.
- ...
- أنا لا أبالغ. تلك هي الحقيقة.
- ...
- سأرحل وليذهب الجميع للجحيم.
- ...
- أحاول معرفة الوقت من المذياع. ساعتي معطلة.
- ...
- إنها مارشات عسكرية.
- ...
- لا شيء يثنيني عن عزمي. زمن التهريج انتهى.
- ...
- وداعا. لا بل إلى الجحيم...
- هنا القاهرة. صدر البيان التالي من القيادة العامة للقوات المسلحة. قامت مجموعة من قوات العدو بمهاجمة منطقة (...) في الشرق، ولقد تصدى لهم رجالنا وما زال القتال مستمرا حتى لحظة صدور هذا البيان و
- ...
- هنا القاهرة.
-
- هنا القاهرة.
- ...
وأمام المرآة كانت هناك حقيبة وجواز سفر ملقيين في إهمال واضح.
رؤية نقدية بقلم / هشام النجار
عنق متضخم بحيث لا تستوعبه ربطة عنق تقتضيها مراسم وبروتوكولات الحفل الذى يميز بين وطنى وآخر أجنبى ، والعنق محل الواجب ففى عنقه عهد وبيعة لا ينكث ولا يفرط ولا يتأخر لحظة عن نداء الواجب ، وفى العنق – قفل الصدر - كثير وكثير من المرارات والتفاهات والسخافات والتطاول والمهانة والاهانة وسنوات من الانكار والتكبر والتطاول وجرح الكرامة واستهداف القيمة والمكانة بالسخرية والاهمال والجحود .
ما أقسى هذا وما أوجعه ، ولا يعرف مدى ألمه الا من جربه وعايشه على الحقيقة .
يضحى ويبذل وعلى استعداد للمزيد وقلبه نقى وصافى ويقدم بطهر وعلو نفس وطيبة قلب وصدق نية وشهامة ورجولة ووطنية ، ويظن أن الجميع مثله بهذا الطهر والنقاء والمثالية .
والعنق محل الرفعة والسمو والمنزلة الرفيعة ، وبرفعه راية الوطن يرتفع عنقه ومكانته فى العالمين ، ويمشى بين الناس مرفوع الرأس ، ويشار اليه ؛ هذا الذى ضحى وأعطى ورفع عنق الوطن عالياً .
لا .. ليس هكذا ، لا ينتظر شكراً ولا ذكراً مقابل تضحياته ، انما الأبطال والرجال الحقيقيون عملة نادرة وغاياتهم نبيلة ونياتهم سليمة وتكفيهم من الدنيا الكلمة الطيبة والاستقبال الجيد والابتسامة الصادقة فقط لا غير ، لن يجلسوا فى صدارة المشهد ويكرهون تسليط الأضواء عليهم وترديد أسمائهم والحفاوة المبالغ فيها بهم ، بل فقط يسعون للمشاركة وأن يكونوا حاضرين الفعاليات ليشاهدوا بأعينهم التطورات والمستجدات وردود الأفعال ونتائج العمل البطولى الذى شاركوا فيه بالساحات ، وهم صامتون على وجوههم ابتسامة وعلى ملامحهم رضا ، فى انزواء وعزوف وسكون وهيبة ووقار ولو فى مؤخرة الصفوف .
أن يضحوا لقيمة عليا – هنا لرفعة الوطن - ففى جزء منها سعى لرفعتهم أيضاً وعلو مكانتهم وفرض احترامهم وتقديرهم على العالمين وعلى الناس ؛ فبأى منطق يضحون ليتحرر الوطن وينال استقلاله ورفاهيته وسعادته وخلاصه من الفقر والكبت والقهر والفساد ، ثم يصبح مصيرهم هم الذلة والفقر والحرمان والوجع والأحزان والمرض والكبت والضيق وتسلط السفلة والصغار بالتفاهة والهيافة والاحتقار ؟
هذا هو شرف الانسان النبيل الراقى وتلك هى جدارته بالحياة ، فهو يضحى من أجل القيمة العليا وسيظل جديراً بالحياة ما دام قادراً على التضحية النبيلة المتجردة من أجل الحق والمبدأ برغم كل شئ وبرغم كل الجراحات والمرارات .
هو لم يقدم على التضحية يرجو من ورائها شيئاً ، بل أقدم على التضحية من أجل التضحية ذاتها التى صارت عنده وسيلة وغاية ، وظهوره فى مشهد ما بعد النصر المؤقت شئ طبيعى ومن بديهيات الأمور وليس منة من أحد أو تفضلاً من هذا وذاك ، ولذلك تبقى أجهزته وحاساته الوطنية على استعداد دائم لالتقاط اشارة نداء الواجب فى أى وقت ، حتى ولو بعد طعنات غادرة ومحاولات هابطة دنيئة لنسف انسانيته وشطبه من المكان الذى ضحى لأجله .
يأتون اليه فى قلب بيته يمارسون ضده وضد زوجته وأولاده صنوف الايذاء والعنصرية والجهالة والاساءة والتطاول والقرف ، وهو الذى شيده بعرقه وحرمانه وشقاه وصبره سنوات ، ورغم ذلك لا يزال وفياً لمبدئه العام الذى يتقافز حوله الأقزام والهمج وأرباب الأذواق المتدنية وعديمو الانسانية والشرف .
نهاية تليق ببطل نبيل عاش مضحياً فلا ينتهى مولياً الأدبار ولا فاراً من الزحف و" أمام المرآة كانت هناك حقيبة وجواز سفر ملقيين في إهمال واضح " ؛ فهو حتى لا ينظر اليهما مباشرة بل من خلال المرآة فلا يليق بمثله الخفة والقرارات المتسرعة والركض المتهور بردود أفعال حماسية ، بل ينظر الى أدوات الهجرة والرحيل عن الديار " جواز السفر والحقيبة " من خلال المرآة ليراهما بجوار صورته هو فى المرآة ؛ بشحمه ولحمه واصاباته وجراحاته وماضيه ونضاله وتضحياته ونبله وانسانيته وبطولاته وعنقه المتضخمة ، لتزيح هذه الشخصية العالية المقام بكل توترات وانفعال اللحظة وتلقى برغبات الرحيل وأدواته الى سلة الاهمال .
التضحية مثوبة نفسها ، وانتظار الأجر والشكر والتقدير من أحد الناس الذين يغلب عليهم الجهل وعمى البصيرة والتكبر ، جهل بقيمتها الغالية ، فالتضحية ابتداءاً كانت من أجل الحق والمبدأ ، ولذلك تبقى مسيطرة الى الأبد وصوتها مسموع فى أذن البطل الذى طالما دخلته الاهانات وسكنته الاساءات ، وبمجرد انطلاق " هنا القاهرة " تطوى الصفحة بكل سوادها وغيها ويبدأ النضال من جديد ، انها كلمة قاهرة فوق كل اعتبار حتى ولو كان راحة وتقدير البطل ذاته .
التضحية ليست حفلاً ساهراً وأناقة الأبطال ليست كأناقة العاديين بربطات عنق وبذلات وسيارات ، بل أناقة البطل فى جسده الممزق وقدمه المبتور وعنقه المتضخم ورأسه المشوه ، ولا يفهم فى هذه الأناقة الجهلة والغوغاء من مرتادى الحفلات المختلطة المزجاة ومنظميها وحراس أبوابها .
وأثقل النقاشات ما كانت مع جاهل بالقيم والمبادئ العليا ، وأوجع ما فى الدنيا أن يتواجد الرجل فى مكان يجهل قدره وفى محيط يتنكر لقيمته وبذله وعطائه ، ولذلك بدأت القصة بحوار تمنى المتلقى أن يخرج سريعاً منه ، وأن ينهى البطل هذه المهزلة ، لكنها مهزلة مستمرة موسعة شاملة لا تتوقف فقط عند بذاءة وتفاهة حارس الحفل بل فى كل مكان هناك جحود واهمال واساءة لا تنتهى ولا يجد البطل مخرجاً منها الا بالدخول فى ذكريات البطولات والتضحيات ، هكذا سريعاً وبدون مقدمات) ألقوا بهذا الرجل خارجاً .. أزيز الطائرات فوق رأسه ) ، كأن حياته فى التضحية هى المنقذ والملاذ من عالم الدناءات والاسفاف والانحطاط والغباء والوساخات .
ولذلك لم يكن مستغرباً أن تتكرر عملية الخروج والدخول المباشر تلك ، من الاسفاف والوضاعة وعذابات الاختلاط بالبشر السيئين ، الى جنة البذل والفداء (وداعاً ، لا بل إلى الجحيم ...
- هنا القاهرة. صدر البيان التالي من القيادة العامة للقوات المسلحة ) .
ومضات خاطفة مسلسلة بأرقام – ولا أسماء - وليس سرداً سلساً متدرجاً متصاعداً عادياً .
وحوارات تدور بين البطل ونماذج بشرية وفى أحيان بينه وبين نفسه وأحداث بانورامية يتم تلخصيها وتكثيفها وبعثرتها فى لقطات سريعة بالكاميرا ، لتصبح وظيفة المتلقى مختلفة هنا ، فلا مجال لالتقاط السرد والحكى ببساطة ونعومة وراحة واستمتاع كعادة النصوص العادية ، بل عليه أن يبذل هنا جهداً مضاعفاً لتجميع اللقطات والمشاهد وترتيبها فى ذهنه وتفكيكها وملء الفراغات الزمانية والمكانية بالأحداث والتفاصيل الكثيرة ؛ حول ماهية الحفل وهوية الحضور ومناسبته وما انتهى اليه الحوار وماذا حدث بعد دخوله أم أنه انسحب واستسلم للطرد .. الخ ، وحول مشاهد الحرب وأحداث المعارك وهوية العدو وتفاصيل ما جرى فى المواجهات وتتبع مسير البطل فى المعسكرات والتدريب وعلى خطوط المواجهة وعلاقاته وماضيه وأسرته وأولاده ومكانته وجميع ما يتعلق بشخصيته وتفاصيل ملامحها فى ميدان القتال بعد هذا الاغراء الهائل بذلك المشهد الأسطورى الحركى البطولى ، حتى التصاقه بالآلة وصارا بالصمود والبسالة من الرسوخ والثبات شيئاً واحداً .. الخ .
وحول ما حدث من مآس ومرارات ودناءات بشرية فجة وقحة ، ثم عودته من جديد الى ميدانه وتفاصيل تضحياته وكيف تطورت بعد الاصابتين – النفسية والجسدية - .. الخ .
أى أن القاص هنا يريد أن يوتر القارئ ويشغله ويرهقه ويتعبه ويعذبه ويجبره على التضحية بوقته وتفكيره ، فلا يستلم نصاً جاهزاً للامتاع على طبق من ذهب ، بل ليلتحم تماماً بشخصية البطل المتوتر الموجوع المشغول المرهق المتعب المعذب المضحى النبيل .
الحديث عن العنوان يطول ، عن ربطة العنق التى قد تكون بطاقة مرور لبعض التافهين عديمى المواهب ، بينما يمنع الموهوبون المناضلون ، وعن المظاهر الفارغة التى تزرى بالعظماء وتقصيهم بينما تمرض أعيننا برؤية أقزام مدعين يرتدون أفخر الثياب ولا قيمة تذكر لأعمالهم وأقوالهم .
حياة المناضلين المضحين تختلف وأناقتهم تختلف وحياتهم وحفلاتهم فى أماكن أخرى يرتادونها فى ساحات الوجع والنبل والعطاء الصامت بربطات عنق تخصهم ليست كالتى يرتديها البكوات والمهرجون .
قد ينقرض هؤلاء يوماً فأين تنميتهم واحاطة أبنائهم وزوجاتهم بالرعاية والتقدير والحفاوة والتكريم ؟ وساعتها لن تجد من يضحى ، بل سيزحف من تبقى من التافهين البهت الى حفلات الولاء للعدو والتطبيل للخونة والعملاء ببذلات وربطات عنق أنيقة على أجساد سحت .