نفس ما أرادوا .. للأديب حسام القاضى
انصرف الجميع ولم يبق إلا هما وحدهما... بكامل ملابسهما جلسا لتناول العشاء، هو بنهم وسرعة، هي ببطء وحياء... كان ينظر إليها بين الحين والآخر نظرات تزيدها حياء وتزيده شراهة في التهام الطعام ، بحركة مباغتة أمسك بالدجاجة من فخذيها بكلتا يديه وجذبهما للخارج فانفصلا ، وبدأ في التهامها ، نظرت إليه مذعورة ، وضعت يدها على فيها ، وأسرعت إلى الحمام لتفرغ ما في جوفها .
عندما تأخرت أتاها صوته من الردهة ساخراً : ألن تأتي ؟ أم تمضين الليلة في الحمام... لعلك لا تحتاجين طبيباً .
رددت بشرود : طبيب... طبيب
نظر الطبيب إلى أمها قائلاً :
- لقد تحسنت كثيراً .
- الحمد لله أن جعل الشفاء على يديك يا دكتور.
- لم أقل أنها شُفيت ، فقط قلت أنها تحسنت وحاذري أن تعرضيها إلى أي أحزان أو صدمات.
- لا أحزان بعد اليوم ، لم يعد هناك إلا الأفراح.
- أية أفراح ؟
- زفافها الذي تأجل من قبل بسبب ما حدث وكاد أن يلغى لولا أنه رجل بمعنى الكلمة .
- إياكِ أن تجازفي بهذا الآن.
- ليس الآن يا دكتور ، بعد أسبوعين إن شاء الله .
- أسبوعان؟! ليس قبل عام ، فهي غير متوازنة نفسيا، ولن يضمن لك أحد ردود أفعالها في مثل هذه المواقف .
- الزواج أفضل حل لها ، خصوصا أنها شُفيت.
- قلت لك من قبل أنها لم تٌشف بعد ، وأنا أدرى بحالتها.
- وأنا أمها وأنا أدرى بمصلحتها.
- لقد حذرتك وأرضيت ضميري.
وسط نحيبها ودموعها المنسابة سمعت صوته يتعجلها:
- ألم يحن الوقت بعد؟ أم تريدين أن آتي أنا؟
- لا أرجوك لا تأتي ، إني آتية لرفع المائدة.
- وهل هذا وقته؟ دعيها في ما بعد.
- أحب أن يكون بيتي نظيفا ومرتباً ، ومنذ الليلة الأولى.
- إذاً أسرعي.
بدأت برفع أطباقه، لم تجد من دجاجته إلا أشلاء... مادت بها الأرض، كادت أن تسقط ، تمالكت نفسها وأسرعت بأطباقه إلى المطبخ ... عادت لرفع أطباقها... في طبق الحساء كانت هناك ذبابة تقاوم الغرق ، ضاق صدرها وانساب رغما عنها على وجنتيها خيطان من الدموع.
أسرعت إلى المطبخ وهي تتأمل الذبابة الغارقة بأسى .
لم يقل لها يوما كلمة حب واحدة ، كان ينظر إليها نظرات ملؤها الاشتهاء، كانت بالنسبة له شيئا جميلا لا روح له ولا عقل ولا منطق... ضاعت فترة الخطوبة بينهما في شد وجذب على شيء واحد يريده منها... وتأباه هي... والشرع... والتقاليد،
سألته ذات يوم ماذا أكون بالنسبة لك؟ أجابها شيء شهي ، دجاجة مشوية ، سمكة مقلية، عندما أخبرت أمها ضحكت قائلة : هكذا هم الرجال يا ابنتي.
كانت دجاجتها ترقد في الطبق كما هي لم تمس... حملتها وربتت عليها بحنان، أتاها صوته هذه المرة مناديا نافد الصبر وهي ترفع الأدوات... ارتبكت... فاصطدمت يدها بسكين، جحظت عيناها... ارتدت للخلف... وجلست.
وضعوها على رقبتها... كانت حادة لامعة، شل لسانها... بعد جهد يسير اقتادوها .
وضع يديه على كتفيها... هبت مفزوعة... تعالت ضحكاته وهو يدفعها دفعا للحجرة، بعد مقاومة يائسة منها دخلت... ويدها خلف ظهرها.
لم تعرف عددهم على وجه التحديد حينما تكالبوا عليها وكبلوها... كان في نظراتهم بريق غريب مخيف... انقسموا إلى فريقين، واحد للنصف الأيمن والآخر للأيسر... وجذبوا... تأوهت وصرخت، تبادلوا أماكنهم واحدا بعد الآخر... تعالى صراخها وسط ضحكاتهم الماجنة... تركوها ممزقة الثوب والنفس والجسد .
اقترب منها فارتدت للخلف... ضحك وتقدم مرة أخرى وهو ينظر إليها ، نظرت في عينيه... صرخت... في عينيه نفس النظرة، إنه يريد نفس ما أرادوا... نفس ما أرادوا.
رجعت للخلف... اصطدمت بالجدار... جحظت عيناها وهي تصرخ:
- ابتعدوا عني.
- ماذا؟ ابتعدوا ؟ إني زوجك.
- قلت ابتعدوا لن تفعلوها مرتين يا أوغاد.
- أوغاد؟ تعالي يا مجنونة.
هم باحتضانها عنوة... دفعته بيسراها بينما ظهرت يمناها من وراء ظهرها ممسكة بسكين.
ألجمت المفاجأة لسانه لحظات ثم انفجر ضاحكا:
- لن تستطيعين إخافتي فالليلة ليلتي. أعطني السكين.
هاجمها... طعنته... صرخ فضحكت، رأت أحدهم يسقط... طعنته مرة أخرى... صرخ فضحكت وسقط آخر... طعنته مرة ثالثة... سقط ثالث... استمرت في طعنه مرات ومرات... حتى سقطوا جميعا وسط ضحكاتها المجنونة .
رؤية نقدية بقلم / هشام النجار
هنا تتشكل أمامنا قضية بمعالجة شبه متكاملة للواقع والخلفيات والأسباب والدوافع والمُهيئات ، وكذلك ببعديها النفسى والاجتماعى وأيضاً بعمقها الانسانى ، ويمكننا استخلاصها من فكر الكاتب ومراميه بدقة ؛ فهناك النظرة المادية التى توحشت وتغلغلت فى مجتمعاتنا ، ومن تبعاتها أن صارت المرأة مجرد متاع وجسد للاشباع واطفاء الشهوة ، ولا تختلف النظرة اليها عن النظرة الى أكلة مميزة أو وجبة عشاء فاخر .
هذا التدنى الثقافى الحداثى - بفعل توحش رأس المال وقيام استثمارات ضخمة على هذه الثقافة المادية اعتماداً فى الأساس على جسد المرأة ، واسهام الاعلام والفنون والسينما والغناء والدراما والمسرح – فى غالب الأعمال – فى الترويج لهذه الرؤية وترسيخها مجتمعياً ، مع غياب وانزواء البديل الثقافى والفنى والاعلامى المتوازن الذى يعطى لروح المرأة وجوهرها وعقلها وثقافتها الأولوية فى التعامل والنظر والاعتبار – خلط الأمور وأربك القضية وعكس الاتجاهات وأطاح بالموازين وتسبب فى أن تصبح المرأة وقضاياها بهذه الخفة والاستهتار والامعان فى الاذلال والاهانة والسحق ، ليس فقط لدى بضعة مجرمين شاذين على قارعة الطريق يتربصون لفريسة ، يعتبرهم المجتمع استثناءاً ، انما لدى الغالبية ، فأصبح من النادر أن تعثر المرأة على زوج رجل طبيعى ينظر اليها بتكامل ويعاملها باحترام ورقى ، وتختلف منطلقاته ورؤاه ونظرته وتعامله مع أنثاه و" حرمته " عن مجموعة المغتصبين الشاذين الأوباش الأنذال .
وعلى هوامش هذا السبب والدافع الرئيسى نلحظ اهتمام الكاتب بحشد مظاهر النظرة المادية وفلسفة الاستهلاك الشهوانى المتدنى ، فكان هذا الاسهاب والتفصيل فى وصف سلوك الزوج فى التهام طعامه ودجاجاته واستدعاء النظرة السلبية الحسية المستوردة فى مشابهة المرأة بأنواع معينة من الطعام ، ومعها النظرة النفعية التى تمثلت فى الحلول المصلحية التى اعتمدتها الأم ، متجاهلة شكاوى الابنة ، متقمصة دور الخبيرة باحوال الرجال ، وكأنها تعتبر أن المشكلة جسدية ومادية بالأساس ، وأن ما تعرضت له الابنة من اغتصاب على يد أوغاد كبار ، سيمحوه سلوك مشابه على يد وغد صغير استطاع استغلال الفرصة وتوظيف المأساة للحصول على ترخيص من الأم لشرعنة ما خطط للاقدام عليه فى سرير الزوجية ، ومعه تقدير من أم مكلومة خائفة على مستقبل ابنتها فى مجتمع طحنته المادة باعتباره رجل المرحلة الشهم ، وكأن الفارق فقط هو عقد الزواج بين ممارسة وممارسة ونظرة ونظرة وسلوك وسلوك ، وليس فى طبيعة العلاقة وشرفها وحرمتها ودفئها الروحى والعاطفى وقداستها ووقارها .
العامل النفسى له دور كبير وقد أجاد وبرع الكاتب فى معالجته وتوصيفه ، ليس فقط من خلال وعلى لسان طبيبها الذى شخص الحالة بدقة ونصح بالعلاج المناسب وتوقيته ومدته ، انما أيضاً من خلال براعة التصوير كأننا امام مشاهد غاية فى الاتقان التقطها مخرج محترف ، تظهر التباين والفوارق الهائلة بين سلوك وطبيعة رجل ، هذا سلوكه مع دجاجة " .. بحركة مباغتة أمسك بالدجاجة من فخذيها بكلتا يديه وجذبهما للخارج فانفصلا ، وبدأ في التهامها " ، وامرأة ذاك هو سلوكها معها " حملتها وربتت عليها بحنان " ، لنكتشف أن أنثى هذه القصة الرقيقة التى تواجه غزواً ذكورياً دموياً متوحشاً قد توحدت مع الحيوانات والحشرات ، فى محاولة على ما يبدو للعثور على بغيتها وما ينقصها من رومانسية وعاطفة ورقة فى عوالم أخرى ، بعد أن افتقدت ذلك كله فى عالم البشر ، فهى تجد مأساتها فى تلك الدجاجة التى يلتهمها زوجها بنهم ويتركها أشلاء ، وكذلك فى مصير تلك الذبابة المسكينة الغارقة فى الحساء .. هى بالفعل توحدت مع تلك الكائنات فصارت تشعر بأن ضعفها من ضعفهم ورقتها من رقتهم بل ومصيرها ومصيرهم سواء ، وكذلك طال التوحد شعورها ونظرتها للآخرين ، فلم تعد تفرق بين زوج شرعى فى بيت الزوجية يعاملها كجسد ولحم فارغ ومجرمين نهازين أشقياء أبناء شوارع ، فجميعهم بالنسبة لديها صار سواء .
نفس ما أرادوا .. عنوان فتح شهية القارئ ، بهذا الغموض والشغف والدرامية الجذابة ؛ فماذا أرادوا ، ومن هم ، وهل حققوا ما أرادوا وكيف ؟
ولماذا يُهيَأ لهم المناخ وتتاح لهم الفرص لتحقيق ونيل ما يريدون ، وأين المجتمع والناس والأهل والجيران والعرف ونفوذ التقاليد ومسئولية الدولة والسلطة وجمعيات حقوق المرأة ومنظمات حقوق الانسان ودور الاعلاميين والمثقفين والفنانين والمبدعين والمفكرين ؟؟
لا شئ ولا أحد معها على ما يبدو ، لنكتشف بنظرة فاحصة ومتعمقة ، أنه لم يكن الزوج المادى الشهوانى وحده هو من أراد نفس ما أراد المغتصبون قبله ، انما هؤلاء جميعاً السالف ذكرهم ، أرادوا ضمنياً وتضامنوا بسلبيتهم وجشعهم وفلسفتهم المادية المتوحشة وابداع التعرى وفنون غرف النوم وفكر المادية الموغل فى الحسيات ، أرادوا جسداً بلا روح ، فقط مجرد دجاجة يلتهمها أحد الذكور أو مجموعة من الديكة فى نهم ويتركونها أشلاء ، أرادوا اغراقها - كذبابة الحساء - فى الملذات والنظرة والرؤية السطحية المادية الساذجة ، لتعيش بلا هدف ولا رؤية ولا طموح شخصى لها ، انما ورقة يتم توظيفها لمتعة وارتواء وربح ومضاعفة نفوذ الآخرين .
هو بالفعل نفس ما أراد المغتصبون الأشقياء ، حيث توحدت أهدافهم ووسائلهم وسلوكهم ، وشعرت هى بأنها وحيدة أمام هذا الطوفان الجارف ، فتوحدت مع المستضعفين أمثالها من الكائنات ، لتتسلح بالسكين قبل أن يذبح الغادرون الدجاجة !
توحدوا ضدها فرأتهم واحداً ، بنفس الملامح عندما تلبسوا وتشبعوا بنفس السلوكيات والأهداف ، فلم تفرق بين وجه زوج بعقد شرعى ووجه مغتصب ، هو نفس المنظر والحضور والظهور الكالح .
هنا القفلة من أجمل ما يكون ، وكانت من أروع مشاهد القصة تصويراً واخراجاً ؛ فالبطلة تستعيد وتسترجع الأحداث المؤلمة المذلة وتتسلح من جديد فى مواجهتها وتحدثهم كأنهم هم ، بوحشيتهم ونهمهم ونظراتهم النزقة الذئبية ، وهو فى ذهول يحاول جاهداً افاقتها لنيل ما يريد وما خطط له ، وقد استجمعت قواها وحشدت كل ما تملك من نفوذ جسدى لتواجه وتهزم خمسة أو ستة ، فلم يكن مستغرباً أن تتغلب هذه القوة المستدعاة على واحد .
هو واحد فى الحقيقة ، لكنه تمت معاملته ومواجهته من تلك المرأة المجروحة كمجموع ، فنال المصير الذى يستحقونه هم ، وربما لا يستحقه هو قانوناً وشرعاً .
هى حالة فجرت هذا الجنون ، وما كان لها أن تكون لو لمست هى اختلافاً بينه وبينهم ، ولو أنه عاملها باحسان وانسانية ورقى كامرأة لها عواطف ومشاعر وأحاسيس وكيان ووجدان ، انما رأته - فى درامية مدهشة - واحداً منهم أراد ما أرادوا بدون تفاصيل وشرح ، فكان دفاعها الجنونى الذى أنقذ الدجاجة – كما تخيلت – من الذبح .