رسالة منها
سيدي..
هذه رسالة أخرى أبعثها إليك .. تحملها كلمات ليست الا أوراقا تتساقط من شجرة حياة في فصل الخريف..كل ما أذكره اليوم أن هناك مسافة بيننا ..هذه المسافة لم تختف أبدا ..
كانت في البداية و مازالت في النهاية ..اذا كنت نسيتها فأنا أذكرك بها فأنت تنسى و كل الرجال ينسون ..أما نحن فلا ننسى شيئا ..بريق العين نذكره ..لمسة اليد نذكرها ..لا ننسى الكلمة التي يقولها الرجل في الوقت المناسب.. لا ننسى اللهفة و الاشتياق اللذان يبديهما الرجل.. فى الموقف العسير..أما أنتم أيها الرجال فتنسون دائما..
أنتم لا ترون المسافة التي بيننا و بينكم ..تحاولون عبثا تقريب المسافات بين الرجل و المرأة ..بالود ..بالعنف..بالخطف..بالحب..أنتم تكرهون المسافات .. اخترعتم الطائرة و المكوك الفضائي ..ودائما تبحثون عن وسائل للقضاء على المسافات بين البشر ..بين البلدان..بين الكواكب ..أما نحن فنرى المسافة و نهملها و نؤمن بالمعجزات ..نؤمن بأن الحب هو أكبر معجزة..
هو أسرع من الصاروخ في اختراق شغاف القلوب ..هو أقوى من الرجل الذي صنع الصاروخ ..أنتم تقطعون كل مسافة بأجسادكم.. و نحن نقطعها بأرواحنا وبالحب ..أنتم تريدون الوصول إلى القمر بالعقل ..و نحن نصله بالقلب في الليلة الهانئة.. هذه المسافة التي كانت بيني و بينك من البداية هي السن..أنت في أواخر الثلاثينيات و أنا في أواخر العشرينيات ..إننى لم أنس ذلك اليوم الذي رأيتني فيه و نظرت ..كأن على وجهي تاريخ ميلادي ..كأنك تريد أن تعرف الساعة التي ولدت فيها ..لقد كنت سعيدة باننى صغيرة السن ..و ازددت صغرا ..لكنك رفعت عينيك بالتحية و مضيت..
كان هذا جزء من رسالة عثر عليها مروان داخل زجاجة من العطر مصنوعة من الكريستال الأحمر فوق رمال ذهبية يخالطها الصفاء..يبحث عن اسم كاتبتها فوجد توقيع أسفل الرسالة بحروف مقطعة ..م..ع..و مؤرخة ..الحادي عشر من يوليو 1998 ..اندهش مروان من غموض الرسالة و صاحبتها ..وقف مشدوها حائرا..كأنما الرسالة موجهة إليه ..كيف أن القدر يغير مسار إنسان بعيدا عن كل التوقعات ..المفاجآت التي تحدث في الحياة و ما يعقبها من بصمات تتركها على صفحات حياتنا..!
يدور مروان في أفلاك الخيال متمتما ..أضحي بأي شيء لكي أعرف من صاحبة الرسالة ..و كأنما القدر ينتظر كلماته..ينصت إلى خفقات قلبه المضطرم نارا..يبتسم في كل مرة يعاود قراءة الرسالة ..يعتمل في صدره شكوك بأن الرسالة هي نوع من العبث ..و أن صاحبتها كانت تلهو ..فقد كان واضحا أنها صغيرة السن لا تأبه للتقاليد الشرقية ..
قاطع حامد لحظة الصمت و التفكير العميق لمروان ..قائلا ..لقد لاحظت انعكاس الحيرة عليك من الرسالة التى تحملها و هذه الزجاجة ..
انزلقت الكلمات من فم مروان من دون تفكير ..هل يعقل ان أقع في حب فتاة لا أعرف شيئا عنها ..هل يعقل أن أنجذب إلى فتاة من كلماتها من ومضات قلم أطاح بكبريائي و عنفواني حتى صرت أسيرها ..هل من المعقول أن أسعى إلى البحث عنها؟؟
حامد: عم تتحدث؟؟
اهدأ و أخبرني بما حدث..و أنصت حامد إلى كلام مروان و ما يقصه عليه من سطور الرسالة الساحرة..
و بعد مرور وقت ليس بالطويل ..أردف حامد قائلا..وجدت حل اللغز..أعرف أن ظاهرة المد في مياه البحر تساعد على إخراج مخبوءات يحملها بين أمواجه ..و من تاريخ الرسالة نعرف انها قد كتبت من ثلاثة أيام فقط ..و أما زجاجة العطر فهي باهظة الثمن ..فلنبحث عن متاجر العطور ..لنعرف من هى م.ع.
انفرجت أسارير مروان ..و شرعا يبحثان جيئة و ذهابا عن ملامح هذه الفتاة الغامضة ..و عندما دلفا متجر عطور ذو واجهة زجاجية ملونه كأنه فسيفساء تحمل حرفي الميم ..والعين ..عند دفعهما للباب أصدر جرس نحاسي ترنيمة عذبة تعلن دخول مروان و حامد إلى المتجر المنسق بعناية ..في صدر المكان .توجد منضدة عرض عليها أنواع كثيرة من زجاجات العطور ..و انتفضا من السعادة حينما وجدا نفس الزجاجة الكرستالية الحمراء معروضة ..اقتربا من الفتاة التي تبدو في العشرينات من عمرها ليسألوها عن الفتاة المنشودة ..الغامضة..و عندما أظهر مروان الرسالة و الزجاجة ..ارتبكت الفتاة ..و علت وجهها حمرة الخجل.
ريماس:نعم سيدي أنا صاحبة الرسالة ..و قد كتبتها و أنشد شخصا يهتم بما جاء فيها ليبحث عني ..فإذا وجدني ..كان هو الأحق بالسعادة و الحب و اكتمال حياتي بحياته ..نكمل بعضنا بعضا و نتآلف كما تتآلف طيور الوروار..
مروان..بحثت عنك ..و ازددت إصرارا يوما بعد يوم للعثور عليك..رسالتك كانت خير أنيس لي ..ولن تكتمل سعادتي إلا بالزواج منك..
في قاعة فسيحة مزدانة بزهور الزنبق و القرنفل و الأقحوان ..ترفل ريماس في ثوب العرس ..تخطف الأنفاس بحضورها الأخاذ..ممشوقة القوام ..شعر أسود حريري منسدل على الثوب الأبيض ..كأنما الليل يداعب القمر ..تسير قرب مروان ..حتى يجلسها على الأريكة و يقبل جبهتها في حنو..و المدعوون ينثرون عبارات التهنئة ..فيجلس مروان إلى جانبها ..هامسا في أذنها..شكرا لك..و مهمهما في نفسه يا لقصر المسافات.... لقد أحيتني برسالة منها..