خَطَرَتْ عَلَى قَلْبِي فَقُلْتُ لَهَا: اعْتَلِي // وَتَدَلَّلِي مَا شِئْتِ أَنْ تَتَدَلَّلِي
عملي هنا بصفتي قارئا محاولة سبر أغوار الجمال واتخاذ سرَب في ثنايا هذه الكلمات التي ليست كالكلمات ، ولا شك أن الإقدام على الخوض في مثل هذا الشأن سيكون مشوبا ببعض تهيب وتردد ، لأن القراءة المتفحصة لنص كبير وبديع كهذا الذي بين أيدينا إن لم تكن في مستواه فقد تزري به أيما زراية .
يستهل الشاعر الكبير الأخ الحبيب د/ سمير العمري قصيدته الفارهة "تدللي" بأسولب خبري لغاية في نفسه النقية ، وربما في المشهد مخاطَبان اثنان الأول مستفهِمٌ وحظه من القصيدة جملة " خطرت ببالي " سرعان ما سينصرف عنه الشاعر إلى مخاطبته التي هي المقصودة وهو قطب الوجود لهذه القصيدة الخريدة .
تحليلي المتوضع لهذا البهاء والنضور، يفترض أن يكون متماهيا في مشاعره مع مشاعر صاحب النص ،فقد يكون كذلك ، وقد لا يكون .
الشاعر هنا ككل الشعراء تتقاذفه ألوان المشاعر والأحاسيس والأمنيات ولعل المقصودة بتاء التأنيث الساكنة في قوله "خطرت" كانت هي المسيطرة على المشهد قبل استهلال القصيدة ولست أشك ــ وأنا أزعم أنني أعرف أخي الحبيب أبا حسام جيدا ــ أن هذه المؤنثة هي ملهمة شعره ونثره وفكره ولا أشك أنه يحيى لها ومن أجلها ،
لما فاضت كاسات الشوق ودنان الحنين في لحظة قدسية شاعرية نقية صافية مشرقة ضاحية ، في نفس الشاعر الملهَم والملهِم ، وقتها كان لابد من طرف مخاطَب يستوعب حرارة شعوره ومرارة اشتياقه و يبثه لواعجه وحنينه وبعض خبايا ضميره الخبيئة ، والطرف المخاطَب في هذه اللحظة لا يهم من يكون عاقلا أو غير عاقل متفهما أو غير متفهم ، الأهم من ذلك كله أن يلقي السمع وهو شهيد وأن يتحسس دبيب المشاعر يسري في كيانه حارا صادحا وصادق .
أو لعل هذا الطرف المخاطَب في المشهد الشعوري كان سببا وجيها في فيضان ينبوع المشاعر المتدفق لدى شاعرنا ، وربما كان ذلك باستفساره للشاعر عن سبب هيمانه العميق ،ليكون الاستفسار المحتمل من الطرف المحتمل هو ذلك المفتاح الذي انفتحت به أبواب هذه المشاهد المشاعرية الخلابة .
الشاعر يصور ملهمته في لحظة صفاء صوفي وقد خطرت على قلبه ودارت بباله ،وهي تعتلي وتتسامى وتتعالى تماما كما يتمناها الشاعر أن تكون وتماما كما يجب أن تكون ، وليس في الاعتلاء إلا المجد التليد والسؤدد المؤثل ، وهل مثل هذه الملهمة تعتلي إلى الأمجاد إلا أسبابه الحقيقية ؟ ولا أدل على سرور الشاعر بهذا الاعتلاء لمخاطبته من ابتسامته العريضة التي زرعها بين حروف المطلع ، ابتسامة تشي بيقين ثابت لا يحيد في قلب الشاعر بحقيقة المستقبل الزاهر الذي ينتظر محبوبته وهو يراه رأي اليقين نظر الصوفي إلى الأشياء ببصيرته ، ولا عجب فإن للمؤمن فراسة لا تخطئ .
الكلمات في المطلع بهذا الترتيب وبهذه الرقة والعذوبة لا تصدر إلا عن مهجة تحترق في خفاء وتبتسم في ألم ، وهي ترسم في إبداع وتسم شِيَمَ وسيْماء تلك التي عُلِّقها الشاعر كأحسن وأجمل وأبهى ما تكون ، كل هذا الجمال الذي دل عليه الافتتاح وأومأ إليه الأسلوب وأوحى به خاطر الناقد وأشار إليه السياق لايمكن أن تستوعبه أوزان البيت الواحد طبيعة ، ولكنني أراه نصب عيني بألوانه الزاهية ، ولا أشك أن كل شاعر يستحضر هذه المشاهد ويستدعيها في مخياله بقرائنها الدالة عليها في ثنايا الكلمات الشاعرة .
قرَّ بها عينا يا أبا حسام فو الله لهي أقل ما يهدى إليك ،
يتبع .....