أصــــــداء باهتـــــة
قصة قصيرة، بقلم: محمد جبريل
.............................................
لمحها فى الموضع الذى اتفقا على أن تنتظره فيه . على ناصية الطريق المفضى إلى شارع الباب الأخضر . تأكدت صورتها فى اقتراب السيارة : القامة الضئيلة ، المنسجمة التكوين ، والشعر المهوش حول الوجه المستدير ، والبشرة السمراء ، الرائقة ، والعينان الواسعتان ، المكحولتان ، والغمازتان على الوجنتين ، والشفة السفلى الممتلئة . أضافت بمرود الكحل خالاً صغيراً على خدها ..
عبر مفاجأة السنوات العشرين بما رسمته من تغير فى الملامح ، حين التقى بها أول الأسبوع . أعاد النظر ليتأكد من صاحبة الضحكة الطويلة ، الممطوطة :
ـ عايدة ؟..
ـ أمير ؟!..
مد يده يصافحها . استبقى يدها فى يده :
ـ مضى عمر ..
اختصرت الأعوام فى قولها :
ـ أصبحت أماً لأولاد فى الجامعة ..
أعاد القول :
ـ أولاد ..
ـ الولدان فى الجامعة .. والبنت فى الثانوية العامة ..
ابتدرته متسائلة :
ـ وأنت ؟..
هز كتفيه ، ومط شفته السفلى :
ـ تأخرت حتى أصبحت فكرة الزواج سخيفة ..
رنت إليه ، تحاول سبر مشاعره :
ـ هل هى تأثيرات حب قديم ؟..
ـ هذا صحيح ..
لم يتدبر المعنى ، وإن تصور أن ذلك هو مايجب أن يقوله ..
ـ هل تقيم فى القاهرة أو الإسكندرية ؟..
ـ الإقامة الدائمة فى القاهرة .. ولى بيت فى العجمى ..
سحبت يدها من يده :
ـ أنا حتى الآن أتوه فى شوارع القاهرة .. أما فى الإسكندرية .. فيكفى أن أتجه ناحية البحر لأعرف طريقى ..
كانت تأثيرات النوة متناقضة مع دفء الجو . لم يشعر بالبرد فى ارتطام الموج بصخور الشاطئ ، واندفاع الرذاذ إلى الناحية المقابلة من الطريق ، وهطول المطر ، وتلاعب الريح بجريد النخل ، ولافتات الشارع ، ومناشر الغسيل ..
أبطأ من سرعة السيارة حتى حاذت الرصيف . فتح الباب ، فجرت من احتمائها بالتندة الممتدة وهى تتقى رخات المطر بوضع الحقيبة الصغيرة فوق رأسها ..
مضى بين زحام المارة ، والسيارات ، والعربات الكارو ، والباعة الجائلين ، والبضائع المرصوصة تحت الأرصفة ..
كانت ترتدى بنطلوناً من الجلد الأسود ، يعلوه جاكت رمادى أشبه بالصديرى . ووضعت على رأسها شالاً من الصوف الأحمر . وكانت تمضغ لبانة بين أسنانها ، تحدث صوتاً كالطرقعة ..
وشى صوتها بانفعال :
ـ تصورت أنك ستصحبنى أولاً إلى البيت القديم ..
حدجها بنظرة جانبية ، يستشف مابعينيها . كان يشعر أن نظرتها تخترقه ، تصل إلى مابداخله ، وماذا يدور فى رأسه . تحركت شفتاه كمن يهم بالكلام ، ثم سكت ..
البيت بطوابقه الستة يطل على المنطقة المقابلة لانحناءة الميناء الشرقية . المسجد الصغير وقلعة قايتباى ونقطة الأنفوشى ومرسى الفلايك والدناجل والقوارب الصغيرة وحبال الليف والشباك القديمة ، المثقوبة ، والجرافات والأسفنج والفلين ، وحاجز الأمواج يمتد بين القلعة ومبنى السلسلة . وثمة أصوات تترامى كالإيقاع لتكسرات مد الموج المستمرة . عندما وقف أمام البيت فى زيارته الأخيرة للإسكندرية ، بدا الباب أضيق بكثير مما فى ذاكرته ، والواجهة تقشر طلاؤها ، وتآكلت بالنشع وملح البحر والرطوبة ، والنوافذ تطل منها سحن لايعرفها ..
ارتبك لرؤيتها أمام باب الشقة . تداخلت الدهشة بالتساؤل فى ملامحه . . كان يطل عليها من نافذته فى الطابق الأول ، يتكلمان عفو الخاطر ، لايقصدان كلاماً محدداً . وكان يثيره فى حجرته تعالى ضحكاتها الطويلة ، الممطوطة . مضى بالارتباك إلى داخل الشقة يأتى لها بجريدة اليوم ..
اهتزت السيارة على قطع البازلت الصغيرة المتساوية فى شارع الباب الأخضر . خلّف مينا البصل إلى كفر عشرى ، ومنه إلى القبارى ، فشارع المكس بطوله واتساعه . وكان الهواء البارد قد أغلق نوافذ البيوت العالية ، ذات القضبان الحديدية المتآكلة ..
مال إلى داخل البيطاش . كانت السحب قد حجبت الشمس تماماً ، والريح الباردة تنداح بصفير موحش ، والرذاذ المتقطع تحول إلى قطع من البرد الصغير . وكانت نوافذ البيوت مغلقة ، والواجهات ساكنة ..
همست بصوت متدلل :
ـ الساحل الشمالى أفضل من العجمى ..
وهو يحنى رأسه فوق صدره :
ـ إنها مجرد شقة صغيرة بالقرب من الشاطئ ..
فاجأه جلوسها فى المقعد المجاور فى باص رأس التين ـ المنتزة . كان قد تكرر رؤيته لها وهى تقف أمام البيت ، أو على باب الشقة ، وتحيتها له بإيماءة من النافذة . علت ضحكتها الطويلة الممطوطة ، حين عرض عليها مشاهدة فيلم " موعد غرام " فى سينما فريال . هزمه الانفعال عندما رآها قادمة فى زى مدرسى من ناحية شارع سعد زغلول ..
سبقته إلى داخل البيت ..
دارى ارتباكه وهو يلقى السلام على حارس البناية الخالية من المصيفين . عجوز ، يرتدى جلباباً من الصوف ، ويضع على رأسه طاقية بيضاء ، تخفى أذنيه ، ويلف عنقه بتلفيعة تدلت على صدره . وكان وشيش الموج يترامى من ناحية البحر . تفادى الأوراق الممزقة والأتربة والعلب الفارغة ..
رأته واقفاً أمامها للمرة الأولى : القامة الطويلة ، والبشرة البيضاء ، والوجه الساكن الملامح ، والعينان الزرقاوان ، شديدتا الالتماع ، والشامة البنية أسفل الخد . والشعر الكث يفز من الصدر . وثمة شارب نحيل ، يميل لونه إلى الصفرة . يرتدى بدلة صيفية سماوية اللون ، مفتوحة على قميص أبيض ..
ـ لم يتغير فيك شئ ..
ثم وهى ترسم دائرة بأصابعها :
ـ ربما ازددت سمنة ..
التقط ماأسعفته به بديهته :
ـ وأنت ازددت جمالاً !
أسند ظهره إلى الباب المغلق :
ـ وحشتينى ..
فاض المكان بالصمت ، وعبق برائحة التراب .الصالة الواسعة توسطها مائدة طعام ، يحيط بها ستة مقاعد تغطت بملاءتين ، وأمام الشرفة الزجاجية ، المقابلة ، كنبة وكرسيان من الخشب المطعم بالصدف . وتتدلى من السقف نجفة خلت إلاّ من ثلاث لمبات صغيرة ، وعلى اليمين ردهة تفضى إلى المطبخ والحمام وغرفة النوم . يحدها ـ داخل الصالة ـ ثلاجة ، وزهرية يابانية ، مزدانة بنقوش دقيقة ، وضعت على حامل خشبى دقيق . وعلى الأرفف مجلدات قديمة ، تهرأت أغلفتها .
وهى تظهر التصعب :
ـ يا مسكين .. عشرين سنة !
ـ عندما رأيتك أحسست أن الإعوام لم تفصل بيننا .. كأنك كنت معى قبلها بيوم ..
ومضت على شفتيها ابتسامة مترفقة :
ـ لم تتغير .. نفس الكلمات الرومانسية ..
ابتلع إحساسأ بالحيرة :
ـ وأنت لم تغيرى لهجتك العدائية ..
أطال النظر إليها ، كأنه يستريب فيما قالت . لم يكن قد تخرج . وكانت فى الثانية الثانوية ..
ـ وهل ينفق أهلنا علينا ..
ـ ولماذا لاتعمل ؟..
ـ أنا طالب ..
ثم بلهجة غاضبة :
ـ هل أترك دراستى ..
ثنت ذراعيها ، وأمسكت بيديها جانبى وسطها :
ـ وهل أنا للتسلية ؟!..
تشاغل بفتح الثلاجة . أعاد الزجاجة الفارغة إلى موضعها ، ونفض أصابعه من الخيوط العنكبوتية التى علقت بها .
حاولت إشعال سيجارة ، لكن الولاعة ظلت تصدر شرراً خفيفاً ، ثم انطفأت ..
ـ ألا تدعونى للجلوس ؟..
أمسك بكتفيها من الخلف . أدارها ناحيته ، واحتوى وجهها بين راحتيه . أطال تأملها ، كأنه يراها للمرة الأولى . امتزجت أنفاسهما ، وإن لم يحاول تقبيلها ..
لم يكن قد أعد نفسه لما حدث . أغلق البواب حجرته أسفل السلم من الداخل ، يتقى العاصفة المحملة بالبرودة والتراب . حيته بإيماءة فى نزولها على السلم . إجتذبها من كتفيها . مال على وجهها ، فقبلها . ضربته ـ بالمفاجأة ـ بقبضتها فى صدره . ظل على حصاره لها بساعديه ، وفمه ، حتى تخاذلت يداها ، واندفعت فى حضنه
تذكر أن لمس صدرها أمنية ، افترقا دون أن يحققها . كانت تسكت عن قبلاته ، وتطلبها . تصده بقبضة رافضة إذا هزمه الانفعال . أهملت راحته ، فدار بأصبعين على صدرها . ثم ضغط فاهتصره . تأوهت ، ومالت برأسها إلى الوراء . تشجع ، فارتطمت قبلته بعنقها . علا إلى خدّها . استقرت القبلة على شفتين مضمومتين ، وإن تسللت إلى أنفه رائحة السجاير ..
لم يشغله الأمر ، ولاتصور أنه يواجه هذا الموقف . تفادى نظرتها المتسائلة بالتحديق فيما لم يتبينه هو نفسه . مجرد الابتعاد عن العينين الواسعتين ، المحدقتين . آلمه ومضة السخرية فى جانب فمها ، وهزة الرأس التى تعنى الفهم ..
قال فى صوت مرتعش :
ـ أذكر أنك كنت تعانقينننى عندما أقبلك ..
وهى تخفض رأسها :
ـ بصراحة .. قبلتك ليست هى التى أتذكرها ..
استفزته الكلمات . شعر بجفاف فى حلقه ، وسخونة تتصاعد إلى رأسه . انداح فى داخله شلال من المشاعر المتباينة . احتضنها بساعديه . نزع الجاكت الرمادى ، والسوتيان ، وامتدت يداه إلى سوستة البنطلون الجلدى ..
تملصت من بين ساعديه . شعر ببرودة تتسلل إلى جسمه ، تسرى فيه بخدر لايقوى على مغالبته . وانبثق العرق فى جبهته . قاوم لهاث أنفاسه ، وأكره نفسه على الابتسام ، فلا تفطن إلى مايعانيه ..
دفعته بأصابع مترفقة :
ـ بعدين ..
لم يقاوم ..
ارتدى ثيابه ، وعدلت السوتيان على صدرها . ثم بدأت فى ارتداء الجاكت الرمادى . ودست قدميها فى الحذاء ..
تبعها على السلم الخالى ..
قال للحارس الذى بدّل مكانه أسفل البناية المقابلة :
ـ إغلق البناية ..
قال الرجل وهو يهز المفاتيح فى يده :
ـ ألن تعود ؟..
ـ ليس اليوم ..
إنشغل بالقيادة وسط زحام السيارات والترام والمارة وكومات الأجولة والصناديق المندلقة تحت الأرصفة . تراقصت المرئيات خلف حبات المطر المتساقطة ، وغاب الإحساس بالوقت فى توارى الشمس وراء سحب منخفضة داكنة . تبادلا كلمات قليلة عن دفء الشتاء فى الإسكندرية ، وتأثيرات النوة على امتداد الشاطئ ، وارتفاع مقابل الدروس الخصوصية فى الثانوية العامة ..
أبطأ من سرعة السيارة . وحاذى الرصيف فى الموضع الذى انتظرته فيه ..
تابعها وهى تميل من الميدان إلى موقف الأوتوبيس .
..............................
مصر الجديدة 6/6/1997