أيتهــا الدنيـــا
اثنين من آباءنا نزلا إليك من سماء بعيدة آلاف السنين بأمر من رب كريم، وعاشروك بالحسنى تاركين ذرية أنبثث الصالح والطالح في كل من مر أو لا زال بين ظهرانيك أو لم يمر بعد عليك..
وكثيرون هم من مروا بين دروبك وعاشروك مسالمين، ولم يتركوا لنا ما نتحدث عليهم به، كما لم يتركوا إلا نقوشا على حجر ثتبت أنهم قد خطوا يوما على أرضك..
كثيرون هم الذين كانوا بين ظهرانيك منذ ملايين السنين، وقد أحبوا إخوتهم وتفانوا في خدمتهم أكثر مما أحبوا خالقهم لعدم تأكدهم من الحياة بعد موت..
كثيرون هم من مروا على أرضك، وتركوا إشارات مرور واضحة بأمر رب كريم لكل من يريد العبور السليم بعدهم؛ كانت ولا زالت حقا إشارات مخطوطة بأنوار سماوية لن يضل المحاذي لها الهدف الذي خلق من أجله، ولا مكان وصوله إليه بإذن الله..
كثيرون هم من عاشروك دون انجذاب إلى بريقك الأخاذ، ولم يتركوا إلا آثارا طيبة يشهد الحق على نبل قلوب أصحابها الراقدون هناك في بعض الأمكنة من أرضك، أو في قبور تنتظر صرخة الحق لتكشف الغطاء عن ساكنون كلهم شوق لرؤية ما وعدهم الخالق به من جزيل الثواب..
كثيرون هم من عاشروك دون فخر أو عظمة، وتركوا أضواءك مبتعدون إلى حيث الهدوء والسكون وبساطة العيش في استعمال الأيدي لكسب لقمة الخبز وشربة الماء، وكتابة حكم ٍفي الظل عرفوا أنها ستنفع أناس سيأتونك بعد أن يفارقوك بنفس البساطة التي عاشروك بها..
كثيرون وكثيرون هم من بقيت أسماءهم على قبورهم تشهد على أنهم كانوا أيضا هنا بين ظهرانيك، ولم يستسيغوا مفارقتك دون أثر يدل على مرورهم بين دروبك فأوصوا الأحياء بأن يخطوا أسماءهم على الأقل ليثبتوا تواجدهم يوما على أرضك..
كثيرون أيضا من عاشروك والمعول في أيديهم يقطعون به حقوق الناس، ويقطفون ثمار غيرهم ليكدسوها كزاد يضمن لهم عدم الكد والجهد وتفريغ أنفسهم لكل ما لذ وطاب منك.. وللأسف أن أنستهم الملذات يوم رحيلهم عنك، فتركوك وأجسادهم لا زالت فيها بقايا أرزاق غيرهم..
كثيرون هم من عاشروك مرغمون على الحياة بين ظهرانيك، ورافضون المجيء إليك، بحيث أن ضيق الروح أعمى منهم البصيرة، وتركهم يتخبطون دون نور يضيء لهم كيفية التخلص مما هم فيه، فجدوا في الخلاص منك بتسريع أروحهم إلى الرحيل عنك..
وكثيرون من عاشروك عنوة، واحتملوا العيش بين أناسك قسرا، ووجدوا لأنفسهم مكانة بينهم تثبت أحقيتهم في العيش حصلوا عليها بأن جأروا في وجه الظلم، وما استكانوا له حتى أخذوا منه كافة حقوقهم كاملة ومضمونة بعدم الركون إلى الذل والهوان، أو لرغد عيش ينسيهم ظلما قد يطال من حولهم، أو قبرا قد يسألون فيه عما كانوا يفعلونه فيك.. فتركوك مبتسمي الوجوه إلى أن هناك حقا ينتظرهم دون أن يبخسوا منه شيئا..
وكثيرون... وكثيرون.. إلى ما لا يعد ولا يحصى..
وكثيرون منا الآن من يعيشون بين ظهرانيك مديرين ظهورهم لكل إشارة مرور نورانية، وضاربين عرض الحائط بكل تلك الحكم الساطعة بالحق، وقافلين آذانهم عن أصوات الآذان الذي يجأر كل حين بأن الله أكبر مما في أيديهم من لعب ولهو وفراغ في دنيا أنستهم أنفسهم إلى حين..
وكثيرون منا الآن قد خلقوا وملاعق الذهب في أفواههم، أو وصلوا لمناصب دفعوا مقابلها حياة ضمائرهم ونور أرواحهم، ليضمنوا كراسي لم تخلق لهم وحدهم، بحيث جلس عليها كثيرون قبلهم، ولا زالت تنتظر آخرون بعدهم.. فأغرتهم ألوانها الزاهية عما تتطلبه من مسؤولية نحو الأمة والرعية، فنسوا الحق في قولهم وعملهم، ومأكلهم ومشربهم، وصادقوا أعادي أمتهم على الباطل زهوا وفخرا وتيها بما لديهم من سلطة لن تضمن لهم البقاء بين ظهرانيك مهما عاشروك طويلا..
وكثيرون منا اليوم ارتضوا العيش تحت كنف الباطل، وأمدوه بكل ما من شأنه تقوية يده، واشتروا له أحقية البقاء بكل وسيلة وحيلة، طمعا بأن يطول مكوثهم بين أفرشته المخملية ووسائده الحريرية، حيث أنستهم طراوتها وليونتها أنهم مفارقوك إلى حيث لن ينفعهم الباطل أمام وجه الحق شيئا..
وكثيرون يا دنيا اليوم منا بين ظهرانيك ارتضوا العيش على جنباتك ذلا وهوانا، وهم ينظرون إلى حقوقهم تأكل أمام أعينهم، وإلى إخوتهم يفارقونك بأجساد متناثرة في كل وقت وحين، وإلى أرضهم تباع من تحت أرجلهم، فاستكانوا للذل طمعا في أمن وهربا من جحيم عيش قد يطالعهم كما طالع إخوة على مرأى أنظارهم يتساقطون كل يوم بالمئات.. فعجزوا عن الجهر بالحق أمام وجه الظلم، أو خسئ عينيه بيد واحدة يجمعون فيها كامل رأيهم على التصدي لكل ما يخدش العزة التي حافظ عليها من سبق وابتدءوا تاريخ أمتهم بيد من حديد لم تستكن لظلم، ولم تشتري الحق إلا بحق، ولم تركن لغفلة تنسيها استحكامها على قبضة أصابعها.. فتناثروا بين دروبك باحثين عن مأمن يقيهم شر الضربات ويكف عنهم الجحيم إلى حين..
وقلة منا فيك اليوم يعملون من أجل الحق، ولم يتقوى جمعهم بعد حيث أغلبهم متناثرون على جنباتك يأملون في التجمع أمام وجه الباطل يوما ليذيقوه بعضا مما يروه يحصل لبني جلدتهم..
وكثيرون آخرون سيعمرونك بعدنا، ولا ندري هل سيعاشرونك مثلنا أو مثل من سبقونا..
ويبقى رب العزة وحده سبحانه وتعالى من يعلم كم سيبعث من تحت أرضك يوم نكون كالفراش المبثوث..!!!