النخيل
***
لأني تربَّيتُ بينَ النخيلْ
تعلّمتُ منه العطاءَ
وَصبْرَ الزمانِ الجميلْ
تعلّمتُ منه احتمالَ الأذى والإساءةِ
حينَ أَرى الناسَ يَستَبِقُُونَ..
ويَرمُونَ أحجارَهمْ صَوْبَ قلبي..
لأُمطرَهم بالثمارِ..
فأضحكُ..
رغمَ الجروح التي تستبيحُ حصوني..
وتَسْلُبُني كَنْزِيَ المستحيلْ
وأَنثرُ فوقَهمُ الأُمنيَاتِ.. بغيرِ حِسَابٍ..
لكي يأكلوا..
ويَقَرُّوا عُيوناً..
وكي يَعلَموا أنني..
لستُ ذاكَ النخيلَ البخيلْ
***
لأني..
تربيتُ بين النخيلْ
أراني شبيهاً بِهِ
حين أُبْصِرُ وجهي على صفحةِ الماءِ في حَقْلِنا
فأرى سُمرةَ الجِذْعِ في لونِ وجهي
وحين يَذوقُ الوَرَى طَعْمَ تَمْراتِهِ في حَدِيثي إذا قلتُ شِعراً
وحين أرى طُولَ جسمي النحيلْ..
أراني.. شبيهاً بهذا النخيلْ
***
لأني تربيتُ..
بين النخيلْ
تعلّمتُ منه الكثيرَ الكثيرَ الكثير
وحين اطّلعتُ على بَعضِ أسرارِهِ
تأكّدتُ أني -إلى الآنَ- لم أحظَ مما لديهِ..
سوى بالقليلِ القليلِ القليلْ
***
تعلمتُ..
مِن فلسفاتِ النخيلِ..
مواجهةَ الريحِ مهما عتَتْ
ومهما بحُزْنٍ وكَرْبٍ.. أتَتْ
فلا ضيرَ أنْ أتمايلَ حيناً
ولكنْ..
تَظَلُّ جُذورُ العزيمةِ فيَّ
تُعانق أرضَ البقاءِ التي أنبتَتْني
فتربو وتهتزُّ فخراً.. بما أنبتَتْ
***
تعلمتُ..
من فلسفاتِ النخيلِ..
فنونَ الصمودِ.. الشموخِ.. التحدّي..
وبعضَ الجنونْ
تعلُّمتُ.. "فِقْهَ الحمايةِ"
حين يَلوذُ بِيَ اللائذونْ
فأنشُرُ سَقْفَ جَريدي عليهم
لأحجُبَ شمسَ المواجعِ عنهم
فيأتَنِسُونَ بظلٍّ.. ظَليلْ
***
وبَعْدَ امتلاءِ البطونِ.. بِشَهدِ الرؤى الصافيهْ
وبعد احتضانِ العيونِ.. لأحلامِها الغافيهْ
أعودُ نخيلاً.. ولكنْ
بلا أُمنيَاتٍ.. بلا قافيهْ
فيأتي الخريفُ..
بِعُرْجُونِ حُزْنٍ قديمٍ
يُعَلِّقُهُ بينَ عيني.. وعيني
فأحيا حياةَ المَوَاتِ
وتشتاقُ ذاتي... لذاتي
وأبكي بغيرِ دموعٍ
وأجمعُ فيَّ رُفَاتي
وأصرخُ.. دون صُراخٍ:
أَعيدوا إليَّ حياتي..
***
وأنظرُ في ساعتي
في انتظارِ احتضارِ الخريفِ
لأُولَدَ مِن مَوتِهِ مِن جَديدْ
ويأتي ربيعُ القوافي..
بِطَلْعٍ نضيدْ
فتُثمِرُ فيَّ الحياةُ كطفلٍ وليدْ
وأرجعُ نخلاً فتياً سخيّا
ويمتلئُ القلبُ تَمْراً جَنِيّا
فتَسقُطُ واحدةٌ...
فوقَ رأسِ الصبيِّ الذي يُمسِكُ الفأسَ في الحقلِ
ينظرُ نحوَ السماءِ
وحينَ يرى التمرَ مِلءَ عَرَاجِينِ قلبي..
يُنادي على قومِهِ النائمينَ.. هنا.. تحتَ ظِلّي..
فيستيقظون على قولِهِ.. جائعينَ
ويُمسِكُ كُلٌّ بأحجارِهِ..
ثم يستأنِفونَ الأذى مِن جديدٍ..
ويَستبِقونَ لِرَجْمِي..
فأضحكُ ثانيةً..
رغمَ كُلِّ الجُروحِ التي تستبيحُ حصوني
وتَسْلُبُني كَنْزِيَ المستحيلْ
وأُمْطِرُهُمْ بالثمارِ..
-كما كنتُ دوماً-
وأَنثُرُ فوقَهُمُ الأمنياتِ..
-كما كنتُ دوماً-
لكي يأكلوا..
ويَقَرُّوا عُيوناً..
وكي يَعلَموا..
أنّ هذي الحياةَ.. بغيرِ عطاءٍ..
ظلامٌ وكهفٌ مُخيفْ
وأنّ النخيلَ سيَبْقَى نخيلاً..
ولو جاءَهُ..
كُلَّ يومٍ..
خريفْ
***