بلا قلب
يرى نفسه مختلفاً جاء من أجل التميز والمجد ، مليئ بالحيوية قوى الجسم مليح الوجه ، لا يراوغ لأنه يعرف هدفه جيداً ويسعى للوصول اليه بأقصر طريق وأسرع وقت .
عضلات جسده ألهمته الحلم ، ورأى المدرب فى عينيه ميداليات البطولة قبل أن تنغلق على حسرة الرفض بعد الكشف الطبى واكتشاف الفيروس الكبدى ، ويتراجع أمام ضربة أولى من مدينة مترعة بالأضواء والثروات دخلها غازياً .
يتطلع أن تنظر احداهن الى وسامته أو تلحظ قوة بنيانه ، تفتح الباب احدى الجميلات وتحمل عنه " الأوردر " وتعطيه بقشيشاً وتغلق الباب بقدمها بطريقة آلية وهى تدخن سيجارة وتحمل الهاتف بكتفها وصدغها .
كيف كان هذا التمثال قبل أن ينحت وكيف كان الميدان قبل أن يشيد وكيف كان الانسان قبل أن يولد ومم صنعت الأظافر وكيف ينزل المطر ومتى يحلق مع الطيور ويغطس مع السمك ، ومتى يقتنى موتوسيكلاً يفتتح به مدنه المغلقة ، يثنى على وجهه الهوليوودى قبعة رعاة البقر وتركع أمامه كل النساء ، تستهويه فلسفة الطفولة وهو غارق فى فشله ، توقظه يد من ظنه صديقاً ويتم الاتفاق سريعاً .
أنت لا تصلح الا للسينما ، مستقبلك هناك ، ستكون نجمها اللامع خلال سنوات قليلة ، ويدفع العربون ووعود بألا ينساه عندما يصل الى القمة ويذهب الى الموعد فتقتحم الشرطة المكان وتشحن النساء والفتيات فى " البوكس " بالملايات .
المدينة ساحرة شريرة جذابة مبهرة مليئة بالقاذورات والعروض المغوية ، وليس وحده من يعرض فى شوارعها وأزقتها بضاعته ، والنساء فاتنات واليوم يمضى كلمح البصر مليئ بالتفاصيل المشحونة بالصراعات ، ويحول دون أن تتمكن أيدى بعض المتسكعين من جسد فتاة بدت بريئة بملابسها الجريئة كجرأة المدينة على النوم وأولادها بلا طعام ومأوى ، وتبتسم له تشكره ويتبعها دون أن تشعر ويُفتح لها باب سيارة حمراء فارهة يجلس على كرسى قيادتها شاب تفوح من مظهره رائحة الدولار ، تهتز بالضحك والموسيقى وتندفع فى جنون تقتحم الملل وتوقظ الصمت تاركة وراءها زجاجات البيرة ورائحة الحشيش وشاباً لم تعد تستثيره قسوة المفارقات .
نفذت نقوده وعجز عن سداد ايجار اللوكاندة ، وفى ملهى رخيص يلمحه صديقه الذى يتعثر بعرجاته ويكشف نفسه أثناء محاولته الهرب ، وفى المواجهة بدا الاثنان مستسلمين ، غير قادرين على العراك ، وينزع عنه قميصه ليريه جسده المشتعل بالسياط وقدميه المشوهتين ويقص عليه كيف عذبه أحد منافسيه فى أحد الأحياء بمعاونة شلته وكيف تركوه عارياً وحده فى الصحراء .
يعودان الى مسكن الصديق شديد الفقر فى بناية آيلة للسقوط بحى شعبى ويعيشان معاً ، هذا يعطيه ما يمتلكه من طيبة قلب ومشاعر صادقة ، وذاك يعاونه على قضاء حوائجه بقوة بنيانه .
فى مظاهرة صاخبة بمظاهر التدين كان يحمل صديقه العاجز على كتفيه ، تصدح حنجرته بهتافات لا يفهمها داوم على حفظها لأيام ، وفى المساء يعودان بزجاجتى بيرة وعلبتى دخان وعشاء .
ينظر الى عجز صديقه ويفتح النافذة الضيقة على صخب المدينة وصراعاتها الدموية وتختنق الحجرة بالهتافات واللعائن والشتائم والدم واللحى والنساء المحجبات والسافرات والأعلام الحمراء والسوداء .. ويقتحم الزحام ، وعندما يعطيه الصيدلى ما طلبه من دواء ينظر اليه لدقائق ويرميه بكل مخزون الغضب ، ويغلق الباب من الداخل ويضربه بقسوة ويسرق النقود بالقوة ، ويسأله صديقه عن زجاجة الدواء فيلوح له بالمال .
فى السيارة كان يحكى لصديقه عن أحلامه القديمة التى سيحققها معه ، السيارات والثياب الفخمة والأضواء والشهرة والنساء والمتعة والشقة الفاخرة على شاطئ البحر والأطعمة التى سمع عنها ولم يتذوقها فى حياته .
لا تسأل من أين أتيت بالمال والى أين ، يكفينا أن نخرج من الجحيم والحرمان ونمتلك السعادة .
يجاهد صديقه لتصديق ما يحدث ويستجمع قواه ليطلق الضحكة ، يحكى له عن أبيه كيف قضى حياته يخدم أحد الأثرياء المشهورين ، وفى يوم موته لم يرسل برقية عزاء ، وخرجت الجنازة فى ليلة أطل فيها على الجمهور بكلام مزوق من احدى الفضائيات .
وعن أخيه الوسيم قوى البنية متوهج الطموح الذى انتهى الى بيع وادمان الخمور والمخدرات ، وعندما مات اجتهدوا فى ازالة رائحة وأثر الخمر والمخدرات من على جسده ويديه وفمه ، حتى فكر فى دفنه بقفاز وقناع .
يفتح باب السيارة ويحمل صديقه الى باص مدينة الحلم ، لكنه كان صامتاً بلا حراك ، بنطاله مبتل ورائحته كريهة .