- نفسي ابجى زي عبد الهادي وابجى حاجة كبيرة جوي والناس تطـَّلع في خلجاتي وانا حاجة كبيرة إكديه.
- وانا بقى مش عاوز غير شوية جنيهات كدا افك بيهم الدين اللى على ابويا واتجوز بردو
- جنيهات ايه يامغفل اللي هتجيبهم من اطاليا
- جصدك تركيا
- لا اطاليا طبعا ..الظاهر اني وقعت مع شوية مغفلين
- الولا عبد الهادي كان راح تركيا وانا عاوز ابجى زيو وارجع ابني فيللة كاااابيرة جد اكديه واتجوز
- بس يااد انت وهو ..وكل نفر منكم على المركب يلم نفسه ويسكت(أفزعهم "ريس " المركب بكلماته المزدرية)
ساد الصمت الثقيل على الكل.. الحالمين منهم والنائمين ؛توقف شخيرهم؛ والذاكرين والخاشعين ،المركب يتداعى قبل التزامه هذا الركب الكبير ،والقمر يدلف بين السحب راقصاً للبعض ومتوتراً تائهاً للآخرين لكأن ناظريه ممسكون بخيوط تحركه كيفما يحلو لهم ؛كلً حسب مزاجه .
والغريب في الأمر أنه رغم العتمة الشديدة التي أسدلها الليل ظلاماً لم يعلن القمر عن نفسه ،فالقمر لايحضر ضوءه إلا رفيقاً للظلام أو سيداً ،لكنه كان ظلاً للظلام يتأرجح ..يسير..يجري ..يقف،أمره كله بيد الظلام ؛فلا ريب في كون الظلام هو سلطان ذلك المشهد ومادونه تابع !
سديمٌ يتماهى لونه بين الفضي والأبيض الداكن رغم الظلام الشديد يلف خصر المركب ويحزمه،الأمر الذي جعل العين تنكفيء على نفسها أو تجول أنحاء المركب الصغير الحافل بالركاب،العيون ترقب بعضها، ابتسامات تسطع وثغرات ملتوية مابين مقعرة ومحدبة فالعين الناظرة يقابلها عين فاحصة ،لاجدال أن الاشمئزاز كان هو الحاضر في عيون المهاجرين أقصد الراكبين ،استئناف للاستنكاف واستطراد للحنق والغيظ ،والحقد يرسم أشباحاً اثيرية تتجاسرها العيون الناظرة الفاحصة،فتجد طبيباً ينظر بعين المقت لميكانيكي يتفحصه،وحالم يتفحص مهندساً بغضب شديد،وحنق يصارع أمواج غضب وكره يغرق في عين حقد .
السديم من ناحية الشمال يترقق يكاد يختفي فقد هاجمه ظلام اقوى واشد ..ينشق عنه قارباً صغيراً يعتمره رجل بأسمال مهترئة وأسنان كلها أنياب تنوي الافتراس وبؤبؤ العين غارق في صُفرة كريهة..وذقن مدببة وصدغ مقعر :
- عاوز 20 واحد بس من اللي معاك يااسطى أصيل
استفهامات علت الوجوه،ريحٌ باردة ثلجية تفي كل من تمر عليه بصقيع قاتل ،الكل تجمد في مكانه ،لكأنهم أصيبوا بصقيع قطبي زهقت على اثره الروح وتجمد الجسد في شكل عشوائي ؛رأس تنظر فوق واطراف مرتخية واخرى لافوق ولاتحت .. رسغين منبسطين ..اصابع منكمشة،الدهشة تتجلى أناساً الآن .
75 شخص متهدل كما النتوءات الثلجية سيحل أوان سقوطها آجلاً أو عاجلاً ،راح السؤال يملي نفسه على كل فرد منهم في خفة ورشاقة "كيف ل75 أن يصبحوا 20 !! "
"كيف ل75 أن يصبحوا 20 !! "
"كيف ل75 أن يصبحوا 20 !! "
السديم يزداد غلظة والقمر ابتلعته السحب في استسلام واضح .
مابين نحنحة وزئير ونقيق ومواء وعويل وصراخ وخوار وصياح ،كانت تترنح الأصوات المتشاكبة المتصارعة بين الكل.. فالكل ساعي الآن ،والحلم يغور شوقاً والشوق لايكفي الحلم،فالحلم كالأنسان لايشبع.. والحلم سباقٌ شبِق .
يموج البحر ويموج.. في تصاعد يظنه راكبه أنه خالد أبدي،يموج البحر مبتلعاً كل الأصوات المتداخلة المتشابكة فكل الأصوات في حضرة هذا الموج الهادر الصاخب صمت عظيم.
الصمت الذي افترس كل الأصوات من نحنحاتها إلى صياحها ،لم يعلم المتكلم أنه يتكلم ولا الصارخ انه يصرخ فكل الحناجر قد تعطلت أو ربما أصابها صدأ من هذا الموج الهادر الصاخب.
صوت متهدج من شفاهٍ قتلتها زرقتها :
- إإإإإإإإححححنا فييييين ... عااااااااد دلوجت ؟
لم يتلق إجابة من الثلاثة الأحياء-فقط- حوله فجثث 71 راحت سدىً بعد مطاحنات حالمة وصراعات آملة ..آملة في أي شيء سوى هذا المنظر البشع المقزز ،واجساد الموتى منثورة ومتراكمة فوق بعضها..والقاتل قتيل والقتيل قاتل، يظهر فيها جلياً اثار انياب ومخالب نبشت وحفرت الألم باحثة عن الكنز الدفين،عن الحلم ،وهو الوصول للقارب الصغير.
- هو المركب الصوغير فييييييييييييييييين ؟
- طب والمركب اللي جينا فيه..والريس أصيل هو كمان فين ؟
راح الثلاثة يبحثون في هذا الظلام الشديد عن كل ماكان والسديم يزداد غلظة وحضوراً مخلفاً ضبابات فصلت بين الأربعة الصارخين النادمين القانطين،رافضين للحياة والموت، والموج الهادر يولد من جديد ،ينادون بعضهم ولكن الموج يأبى ..يفترس كل الأصوات بكل معانيها واشكالها ولهجاتها .
ولايزال السؤال ينتقل-في خفة ورشاقة- بين الأمواج والسديم والضباب والظلام باحثاً عن اجابة
" كيف ل75 أن يصبحوا 20 " ؟؟!!
تمت ..أحمد زكريا منطاوي