ابن الجيران ( قصة من أرشيف ثورة )
لا أدري متى أحببتُك.. هل عندما اندهشت طفولتى وأنا أغوصُ في زرقةِ عينيكَ، أحاول أن أعرف لماذا هما مختلفتان عن كل العيون التى أراها وتراني؟ أم عندما ابتهج صباي بابتسامةٍ منك، وامتلك طيفُك الباسم كل مساحات خيالي؟ هل أحببتُكَ يومَ رأيتُك الأجملَ بين الجميع؟ أم أنني رأيتك هكذا لأني أحبُك؟
سمعتُ الزغاريد تنطلقُ من بيتكم، فانقبض صدري وانتابني حزنٌ شديد.. خرجتُ إلى شرفتي لعلى أراك.. ورأيتُك وقد تركتَ كل المهنئين ووقفتَ وحيداً في شرفتك، شارداً مهموماً .. والتقت عينانا، ولكني لم أهرب كما كنتُ أفعل كل مرة.. أردتُ أن أملأ عيني منك، وأن أتزود لوحشةِ أيامٍ قادمة.. ابتسمتَ لي، فهربتُ منك من جديد.
دق جرس نهاية اليوم الدراسي، وخرجتُ أحتضن حقيبتي وأخذتُ طريقي إلى البيت. وفي منعطفٍ عند نهايةِ سور المدرسة ظهرتَ أمامي فجأة.. تسمرتُ في مكاني، وتوهجت وجنتاي، و تسارعت دقاتُ قلبي، وصمَّت أذناي فلم أعد أسمع شيئاً، واختفي كلّ شيء من حولي، واختُزلت كلُّ الألوان في اللون الأبيض الذي كنت ترتديه.. بادرتني بابتسامتك الآسرة، وأمسكتَ يدي عندما هممتُ بالهروب.. لكنني هربت.
رميتُ بحقيبتي على السرير وأسرعتُ إلى الشرفة لأراك.. رمقتني بنظرةِ عتاب: أهكذا يكون استقبالك لي بعد خمسةٍ وأربعين يوماً من الغياب؟
توالى غيابك، وتباعدت وقصرت فترات حضورك .. وتلاشت ابتسامتك شيئاً فشيئاً.. حتى عيناك المدهشتان اعتقلتَهما خلف نظاراتٍ سوداء. ماذا فعلت بك البدلةُ البيضاء؟
كنتُ أهرب من هجيرِ غيابك إلى واحة الأحلام حيث أنا وأنت معاً نضيفُ إلى قاموس الحياة معاني جديدة للسعادة .. كنتُ في أسعد أحلامي أراني وأنت، بثياب الزفاف، وقد تناثرت حولنا الزهور من كل الألوان، وعبقت روائح البخور بالهواء من حولنا، وحجبتنا أدخنتها العاطرة عن العيون، وأنا غارقة في زرقة عينيك بنفس الدهشةِ الطفولية القديمة، وأنت تحيط خاصرتي بذراعيك كي لا أعاود الهروب..
وتحقق حلمي.. وجاء يومُ زفافي.. والتقينا بعد سنين الغياب.. وعندما أمسكت يدي، لم أر من وجهك سوي عينيك الزرقاوين المدهشتين.. ولم تر من وجهي سوى عينين ألهبهما دخان الغاز المسيل للدموع.. طوقت خاصرتي بإحدى ذراعيك، وكانت الأخرى تفرق بالسلاح جموع الثائرين .. وعندما أفقتُ من دهشتي حاولتُ الهروب.. أي قوةٍ تلك التي دفعتُك بها فأسقطَتك وحررَتني من أسرك؟ ... هل كان يجب عليّ حينها أن أنزع الكمامة عن وجهي لتعرف أنني أنا جارتك الحبيبة، قبل أن تخترق الرصاصة قلبي لتفرغه من حبك إلى الأبد؟