القدريات المحبطة
د. موفق سالم نوري.
مما لا ريب فيه أن الواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية اليوم يكشف عن حالة من التراجع والنكوص الحضاري والسياسي وفقدانها القدرة على الإمساك بزمام التغيير نحو الأفضل، فباتت الهوة تزداد اتساعاً بينها وبين الأمم الآخذة بزمام المبادرة الحضارية، ومما لا ريب فيه أيضاً أن هذا الواقع كان أحد أهم الأسباب التي تقف وراء ظاهرة (العنف) التي اصطلح عليها الغرب بـ(الإرهاب) ووجد فيها خطراً جسيماً عليه وعلى مصالحه، فراح يبحث عن ضرورة التغيير في واقع الأمة، لكن التغيير الذي يريده هو ـ أي: الغرب ـ من أجل سلب إرادة الأمة في التغيير كما تريد هي.
ولعل من بين الأسباب المهمة التي قادت إلى مثل هذا التراجع في واقع الأمة، تراجع دور الفرد وانحسار فاعليته انحساراً جلياً واضحاً، مع إحساس عميق باللاجدوى من أية مبادرة، وأن مسار الحياة اليومي الروتيني يكفي وحده لتدور عجلة الحياة دورتها التقليدية، الأمر الذي يعني أن مستوى الأداء والإنجاز قد هبط عند الأفراد إلى أدنى حد يمكن تصوره بالمعدل العام لأفراد المجتمع، في وقت مست فيه الحاجة إلى ضرورة رفع مستوى الأداء والإنجاز إلى مستويات أعلى من أجل تقليل فارق الهوة بين الواقع وما ينبغي أن يكون عليه الأمر في المنظور الشرعي، أو بالقياس إلى واقع التقدم الحضاري الذي بلغه العالم الخارجي، إن مشهد الفرد هذا في واقع الأمة المعاصر يقف وراءه جملة من الأسباب من بينها ما أسميناه بـ(القدريات المحبطة) المعبرة عن فهم شائه للقدر، الذي يتجلى بالتصورات الآتية:
1\ القدرية اليائسة
تقوم هذه القدرية على فهم الواقع بوصفه قدراً إلهياً عقابياً تستحقه الأمة بسبب تخليها عن المنهج الشرعي في صناعة الحياة، إذ لابد لها من أن تأخذ هذا القسط من العقاب، الأمر الذي يعني ضرورة الركون والاستسلام إلى هذا الواقع والقبول به، سواء كان احتلالاً بغيضاً أم حاكماً محلياً جائراً، معللين ذلك بالأثر القائل: (عُمَّالكم كَأعْمَالِكُم وكيفما تكونوا يولّى عليكم) ومع أننا لا نختلف في أن مآل الأمر إلى المشيئة الإلهية، فإن الله تعالى جعل للكون والحياة لمّ.ا خلقهما سنناً ونواميس تحكم حركة كل مَنْ في الكون والحياة بأوجهها كافة، هذه السنن والنواميس تحكم العلاقات بين الظواهر الطبيعية والحياتية، فإذا ما اختلت هذه العلاقات قاد الأمر إلى نتائج مغايرة لما يعد في مصلحة الإنسان، التي لا تتحقق إلا إذا توافق سلوكه مع هذه السنن والنواميس، وهكذا يمكن فهم قيام الدول والحضارات، ومن ذلك أن مجافاة الأمة لمنهجها الشرعي قاد إلى واقع الحال المعاصر.
هنا نرى ضرورة تفهم الاعتبارات الآتية: إذا كان هذا الواقع عقاباً ربانياً، فهل أن هذا العقاب حالة نهائية ينبغي الاستسلام لها أم أنه قرين بمنهج معين إذا ما عدلت عنه الأمة تغير حالها وانتفت علة العقاب؟ وفي هذا السياق جاء قوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)[الرعد:11] ليدل أنه ما من ثبات على حالة عقابية معينة، بل إن الأمر مرتهن بتوجهات الأمة نفسها، فإنها إذا ما التزمت السير نحو التزام المنهج الشرعي، فإن ذلك يعني بالنتيجة خروج الأمة من مأزقها الحضاري (العقاب) والانتقال إلى حالة (الشهود الحضاري) الذي يعبر عن قوة الأمة وتفوقها وإمساكها بزمام المبادرة الحضارية.
وإذا كانت الحال التي عليها الأمة عقاباً وابتلاءً، وإذا كان على المرء أن يقابل الابتلاء بالصبر الجميل، فإنّ ذلك على وجه العموم أن يصبر المرء ويتحمل، إلا أنّ لكل نوع من الابتلاء التعامل الخاص معه، فإذا كان المطلوب من المرء الصبر الجميل على مصيبة الموت للأحبة ـ مثلاً ـ فإن مصيبة الاحتلال لا تقابل بالصبر الجميل، بل بالعمل على وفق المنهج الشرعي، وذلك ما يريد الله أن يتبينه في عباده، فإن استجابت الأمة لدواعي العمل الشرعي ظهرت معونة الله تعالى على ذلك بكشف الابتلاء عنها، أما إذا فهمت الأمة الأمر على غير الفهم الشرعي الصحيح فإن عليها أن تتحمل تبعات فهمها هذا.
ثم إذا كان واقع الأمة هذا ثمرة لخلل في المنهج الذي سار عليه جيل أو أجيال من الأمة فاستحقت عليه العقوبة فإن الأجيال اللاحقة لا تتحمل وزر ذلك، إلا بقدر ما تتعاطى به من منهج شرعي فـ(كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)[المدثر:38] والاستسلام لقدر العقوبة ليس له من ثمرة سوى استحقاق المزيد منها، في حين أن الخلاص من استحقاق العقوبة الإلهية له مسار واحد لا ثاني له هو بالعودة إلى المسار الشرعي في حياة الأمة، فالأمر أولاً وآخراً رهين بما تنطوي عليه (إرادة) الأمة واختيارها.
2\ قدرية البشارات
وهي القدرية التي تؤمن بأن البشارات قد تواترت في الكتاب والسنة، وقضت بحتمية انتصار الأمة وتمكينها في الأرض بقيام دولة الإسلام (دولة الخلافة) وأن الخلافة آتية لا ريب فيها، بوصفها قدر إلهي لا راد له وعليه فإن بعضهم وجد أن لا ضرورة للسعي والعمل، وأنه لا مسوغ من تعريض الأمة للخطر.
إن الاعتقاد بهذه البشارات ليس أمراً سيئاً ولاسيما أن الكتاب والسنة الصحيحة قد دلت عليها، بل إن الثقة بهذه البشارات فيه ما يرفع المعنويات ويوطد الثقة بالمستقبل، ويجعل القدم راسخة على طريق العمل، بيد أن ذلك يتطلب إدراك حقيقة مهمة، أن هذه البشارات ليست سياقاً زمنياً تلقائياً، وهي ليست مما يقدم على أطباق من الذهب، ولو كانت الأقدار تفعل ذلك لكان رسول الله عليه الصلاة والسلام أحق الناس بذلك، وأولى به من سواه، لقد تعرض هو وصحبه الكرام إلى شتى الصنوف من الأذى، وبذلوا الأرواح والمهج والأموال وجاهدوا في الله حق جهاده ونصروا دين الله حق نصره فأعزهم الله تعالى ومكن لهم في الأرض، فهم لم يقعدوا منتظرين الأقدار أن تدور لصالحهم، فهذه البشارات لا تأتي إلا لمن يسعى إليها ويعمل من أجلها، والأخذ بالأسباب من سنن الله في خلقه، وعليها تدور أقداره، فالأسباب من الأقدار، والمرء بين سببين، إما أن يأخذ بأسباب النجاح وإلا يكون قد أخذ بأسباب العجز وعلى ذلك تتصرف الأقدار.
وفي هذا الإطار يأتي قوله تعالى: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد:7] ولكن هل يأتي نصر الله ابتداءً؟! ربما اعتقد بعض العاملين في الساحة الإسلامية أن مجرد المباشرة بالعمل لنصرة دين الله تستوجب مجيء النصر الإلهي، ومن واقع سيرة الدعوة الإسلامية يتبين لنا أن الأخذ بالأسباب أخذاً حقيقياً جاداً ومثابراً، يعبر عن صدق النية وصدق العزيمة وصدق الهمة، هو الذي يأتي بالنصر من عند الله، الأمر الذي يعني أن لا يبخل العاملين بشيء من جهدهم ولا يدخروا وسعاً في ذلك، عندها يحق لهم انتظار الفرج والنصر من عند الله، وحق لهم أن ينصرهم الله، وهكذا كان الدرس بليغاً في دلالته في معركة بدر الكبرى، فقد أبلى المسلمون بلاءً لا مزيد عليه في صدق النية والعزيمة والهمة، فلم يبخلوا بشيء من الأسباب القلبية والمادية، فجاءهم المدد من الله تعالى، لمًّا أَعانهم بملائكته فكان نصراً مؤزراً للإسلام وللمسلمين، وتكرر الدرس مرة أخرى في معركة الأحزاب، فالخطر كان على أشده حتى بلغت القلوب الحناجر من هول ما استشعره المسلمون من خطر، انظر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً* إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً}[الأحزاب:9-11].
لقد بلغت بهم المحنة مبلغاً كبيراً، حتى استشعروا الأرض تتزلزل من تحت أقدامهم، وأن عدوهم قد أطبق عليهم من كل ناحية، إلا أن هذه الفئة من المؤمنين لم تفقد الثقة بربها، ولا بنفسها، فهم أولاً لم يهنوا ولم يضعفوا ولم يلن لهم جانب في حق الله ودينه، ولم يخطر لهم المساومة على ذلك، معتقدين صحة قضيتهم وأحقيتها فزادهم هذا إيماناً بالله، عندها تفجرت قدراتهم المادية ولم يدخروا وسعاً في الثبات والعزيمة، فحفروا الخندق وثبتوا من ورائه، عندها أمدهم الله تعالى بنصره تحمله ريح عاتية قلعت معسكرات العدو وجعلتهم يولون لا يلتفتون إلى شيء، فالدرس هنا يقوم على ضرورة تجنب الشعور بالإحباط وضرورة الثبات وعدم التقصير في شيء من حق الله تعالى ونصرة دينه.
وفي هذا السياق تأتي عقيدة (المهدي) بوصفها إحدى الغيبيات التي تكلم فيها الرسول عليه الصلاة والسلام ، فالأحاديث في المهدي كثيرة، وقد ثبت أنه فيها ما هو صحيح وما هو ضعيف ومجموع الصحيح منها يفيد التواتر المعنوي، بحسب ما قرره بعض العلماء، ولكن السؤال الخطير هنا كيف يجب على الأمة أن تتعامل مع هذا الموضوع؟ في هذا السياق يحسن ملاحظة الجوانب الآتية:
أولها أن كلمة (المنتظر) في الإشارة إلى المهدي لم ترد لا في سنة النبي عليه الصلاة والسلام ولا في كلام أحد من السلف، بل أن هذه المفردة دخيلة على ثقافتنا، الأمر الذي يعني أن الأمة ليست بصدد (انتظار) هذا المهدي ولا تعليق شيء من الأمور على ظهوره .
ثانياً : أن الإشارة إلى المهدي في الأحاديث النبوية جاء بصيغة الإخبار عن علامة من علامات قيام الساعة، كما هو حال الخبر عن الدابة وعن الدجال وعن المسيح وعن طلوع الشمس من مغربها، فهو مجرد خبر عن علامة من هذه العلامات، ومرة أخرى فإنه لا يعول على ظهوره تأخير فعل الأمة وعملها من أجل إقامة دولة الإسلام، والقعود عن العمل هو الذي يرمي بالأمة إلى مهاوي الإحباط.
3. القدرية الغيبية:
تلك القدرية التي تستند إلى شيء من التنجيم أو محاولة قراءة الغيب عبر طلاسم معينة، تنبئ عن زلازل أو براكين مدمرة أو اصطدام الكواكب والنجوم والأجرام السماوية ببعضها أو بالأرض لتسفر عن تدمير قوة العدو، أو تدمير العدو نفسه، وربما عبث بعضهم بالنص القرآني الكريم بطريقة المنجمين المحترفين بغية الوصول إلى مثل هذه الاستنتاجات، ضاربين صفحاً كل ما يتعلق بالأسباب، متجاهلين دور الإنسان وإرادته وفاعليته، وربما راح هؤلاء يقدرون المواعيد والأزمنة التي ستشهد مثل تلك الأحداث الهائلة، وتمر الأيام والسنون لتبقى صرخة أبي تمام مفحمة لكل متنبئ دجال (السيف أصدق أنباءً من الكتب) والكتب هنا كتب الدجل والشعوذة والمنجمين.
إن الركون إلى مثل هذه الخيالات وأحلام اليقظة هو أكثر ما يفجع هذه الأمة ويرمي بها في مهاوي التراجع والانحطاط، مثل هذه الخيالات إذا ما تسللت إلى عقول الأمة فإنها تزرع فيها الاسترخاء والركون إلى أقدار كاذبة ليست حقيقية لكنها تصيب أوصال الأمة بخطر وشلل حقيقيين فالأمة بحاجة اليوم إلى أن تؤهل نفسها للنصر الحقيقي، بأن تحقق في ذاتها وواقعها نهضة حقيقية لا نهضة زائفة، فتراجع دور الأمة لا يعود إلى أن لعدوها تفوقاً وقوة فحسب، بل أن الأمة نفسها غير مؤهلة لتحقيق ذاتها بسبب مفاصلتها مع الحياة الشرعية المفترضة، فهل يكفي أن يدُمّر العدو حتى تظهر أمتنا الإسلامية، قائدة للإنسانية من جديد؟! بل إن الأمر يحتاج إلى أن نمتلك زمام المبادرة الحضارية مرة أخرى، لنستحق دور القيادة الحضارية إنسانياً من جديد.
4\ قدرية القوى العظمى
وهي نوع خطير لفهم طبيعة مجريات الأحداث في السياسة الدولية، ترى أن كل شيء يتحرك بموجب الخطط السرية المحكمة للقوى الكبرى وللمنظمات السرية الخطيرة التي باتت تتحكم بكل شيء في العالم، بموجب شبكة معقدة من الخطط التي يحيكها دهاقنة دهاة، يصعب اختراقها، بل يستحيل ذلك، فيتغير كل شيء في العالم على وفق إيقاع معين مسيطر عليه بإحكام، وإزاء ذلك فنحن لسنا سوى بيادق مغلوبة على أمرها ضعيفة بلا حول ولا قوة، وهذا الوصف عند أصحاب هذه الرؤية ينطبق على الجميع شعوباً وحكومات.
إنّ مثل هذه الرؤية تولّد في الأمة إحساساً بالضآلة والتقزم والهامشية، فتتعطل في الأمة قدرتها، وتشل فاعليتها لتغدو أمة منفعلة جلّ سلوكها يقوم على رد الفعل، من دون أن يكون لها أدنى فعل، ومن هنا تولدت أسطورة وتفخمت حتى غدت شبحاً مرعباً يعرف بـ(الماسونية) ومثلها يقال عن (المخابرات المركزية الأمريكية) وغيرها من القوى السرية أو العلنية.
وإذا بالكثيرين يشعرون إزاءها بالإحباط والعجز وعدم القدرة على المواجهة، متناسين في ذلك أمرين مهمين:
الأول: أن من ينصر دين الله لابد من أن ينصره الله، وأن نصر الله آت لا محالة مع الأخذ بالأسباب، بالتالي فإن هذه القوى مهما بلغت من القوة والجبروت والطغيان، فإن فيها مقتلاً يمكن اكتشافه، فالكمال لله تعالى وحده، أما هذه فمهما بلغت فإنها قوى بشرية، يصح عليها ما يصح على سائر البشر من نقص فإذا ما توفرت الإرادة الحقيقية والعزيمة الصادقة والعمل المتقن المشفوع بالنية السليمة، فإن بالإمكان مواجهة هذه القوى والتغلب عليها، فإن الله تعالى يأتي بنيانهم من القواعد فيتراكم على رؤوسهم ثم يغدو هباءً منثوراً، بيد أن الأمر يحتاج إلى كسر حاجز الخوف والتردد، والأخذ بأسباب الجرأة والإقدام {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}[آل عمران:159].
هنا لابد من استذكار رسالة لعمر رضي الله عنه وجهها إلى سعد بن وقاص رضي الله عنه وهو في طريقه لمواجهة أعداء الإسلام، خاطبه فيها بقوله: اعلم يا سعد أنت ومن معك من الأجناد إنما تنصرون على عدوكم بطاعتكم لله، فإذا عصيتموه استويتم أنتم وعدوكم، فتحالون إلى الأسباب.
هذه الرسالة عبرت عن عمق الرؤية الشرعية لدى عمر رضي الله عنه، وهو ما ينطبق على واقعنا أشد الانطباق، فلما خالفنا المنهج الشرعي اختلفت علينا الأحوال فآل حالنا إلى شرِّ حال.
الأمر الثاني: أن نتعامل مع هذه القوى على أساس متوازن من غير تهوين أو تهويل، لأن كل منهما يعطي صورة شائهة عن العدو، تجعل التعامل معه لا يستند إلى أسس صحيحة من الناحية التقنية.
على أية حال فإن هذه القوى لها إرادة، ولكن إرادتها هذه ليست إرادة إلهية بل هي إرادة بشرية قد تصيب وقد تخيب، وأن لها مقاتل إن تمّكنا منها كانت لنا الغلبة، وإن لم نتعرف عليها بقيت الدائرة تدور علينا، فالأمر في جوانب رئيسة منه يتعلق بنا، وفي رسالة عمر ثمة درس بليغ لابد من إدراكه، حتى لا نقع في إحباط وأسر تصورات خاطئة ومنحرفة.
5\ القدرية التأريخية
وهي التي تعرف في إطار فلسفة التأريخ بـ(الحتم التاريخي) الذي يعني حتمية وضرورة التحولات التأريخية على وفق اتجاهات ومسارات معينة، قال بها أصحاب هذه المدرسة أو تلك كلٌ في إطار فهمه الخاص لحركة التأريخ، ومعطيات هذه الحتمية قد تكون سالبة أو موجبة فيما ينتظر الأمة من تحولات، فربما يرى البعض أن عربة العولمة ماضية في طريقها، ومن لم يركب فيها سحقته، وبالتالي فإنه لابد لهذه الأمة من أن تحدد مصيرها على هذا الأساس فإما النجاة بامتطاء عربة العولمة، وإما الانسحاق الحضاري التام، وهكذا راح مفلسفو العولمة يؤكدون هذه المفاهيم من خلال نظرياتهم (نهاية التأريخ) و(صِدام الحضارات) وقد يجد بعضهم رأياً آخر فراح يبشر بحتمية انهيار النظام الرأسمالي، كما انهار رديفه النظام الشيوعي، إن هذه التصورات وغيرها إنما تنبئ عن تصورات بعض المفكرين وهي الأخرى قد تصيب وقد تخيب، وفي مثل هذه الحالة يجب أن لا يبقى مصير الأمة معلقاً على احتماليات تأريخية أقرب مما هي حتميات تأريخية، لذا لا يجدر تعليق الأمر بعيداً عن الفعل المباشر للأمة بنفسها في تقرير مصيرها، على أن لا يعني استقراء أفق المستقبل الوقوع في أسره المحبط للفعاليات المباشرة للأمة، إذ يتحتم التأكيد مرة أخرى على ضرورة مراعاة سنة الأخذ بالأسباب، وهي من سنن التغيير في واقع الأفراد والجماعات على حدٍ سواء حتى تتمكن الأمة من أخذ مكانها المناسب في سياق حركة التأريخ، وعدم الاستسلام لتحولات على افتراض أنها تلقائية وهي ليست كذلك، فحركة التأريخ حركة واعية مقصودة تخدم من يفعِّلها وتسحق من يتجاهلها أو يتغافل عنها.
6\ قدرية الأسباب
هذه قدرية أخرى، قد تختلف بعض الشيء في الشكل على ما تقدم، لكنها تشترك معها في النتيجة، إنها القدرية السببية التي يعتقد أصحابها أن مجرد الأخذ بالأسباب كفيل بتحقيق ما ينشد من عمل، ومع أهمية الأسباب، غير أن هذه وحدها لا تكفي، بل لابد أن يترافق معها أو يتقدم عليها التوكل على الله وحسن الظن به، وذلك ما يعرف بالأسباب القلبية، ففي الوقت الذي يعمل فيه المرء بأسباب الجوارح لابد أن يأخذ قلبه بالأسباب أيضاً، فيتعلق قلبه بالثقة بالله تعالى، وهذا يتطلب من جانبه ملاحظة الجوانب الآتية:
إخلاص النية لله في العمل، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك، لا يقبل شريكاًُ له في العمل، وكل عمل فيه شرك صغيراً كان أو كبيراً فإنه عمل محبط .
ثم لابد من أن يكون العمل صالحاً (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)[الكهف:110]، ومن صلاح العمل أن يكون تاماً كاملاً لا نقص فيه.
وذلك يتطلب أعلى درجات الصدق مع الله، الصدق في النية، والصدق في العزيمة، والصدق في الهمة، والصدق في إتمام العمل على أفضل وجه، بقدر المستطاع، لأن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، غير أن انعقاد الصدق في القلب ميسور لكل من نوى عليه.
عند هذا الحد على المرء توقع المعونة من الله، ويجدر التنبه أن هذه المعونة على درجتين وهذا مقصد الأمر هنا، معونة من الله تمكن المرء من الأخذ بالأسباب وتهيؤها له، ومعونة من الله تعينه على الانتفاع بالأسباب، فليس كل من أخذ بالأسباب انتفع بها، فكم من فئة كثيرة آخذة بالأسباب غلبتها فئة قليلة، لذلك فإن الاعتماد على الأسباب وحده لا يكفي والثقة لابد من أن تكون بالله لا بالأسباب، والتعويل على الأسباب وحده جدير بالإحباط، وأن حسن التوكل على الله وحسن الظن به من أبرز أسباب الظفر والنجاح.
إن التخلص من أسر هذه القدريات أمر بالغ الأهمية والخطورة من أجل صياغة إنسان النهضة الذي يتحمل مسؤولية الارتقاء بالأمة نحو نهضتها الجديدة المنشودة، بيد أن صياغة هذا الإنسان وتكوينه ليس عملاً ثقافياً تقليدياً بل هو عمل معقد وشاق في إطار التحول الشامل نفسه، هذه العملية لا تتم عبر طريق الترتيب التقليدي للمراحل، إذ يحتاج الأمر إلى جملة مداخلات ميدانية وفكرية تهدف إلى بناء إنسان يرتكز على معطيات عدة منها، بل على رأسها تفعيل حركية الفرد المسلم، بحيث يدرك أهميته وأهمية ما يفعله ويقدمه من أجل تحقيق نهضة الأمة، فطالما أن التغيير لابد منه، فإنه لابد أيضاً من أن يكون تغييراً داخلياً وليس خارجياً، وهذا التغيير لابد له من أدوات، أفراد فاعلون قادرون على تقديم الجهد بكل تجلياته من أجل إحداث هذا التغيير.
وما يجب أن يدخل في بناء هذا الإنسان أيضاً تحريره من (رُهاب السلطة) تحريره من الخوف أو الإحساس الزائد به الذي يشل فاعليته ويقمعه قبل أن تمتد إليه أيدي رجال السلطة، إن هذا الخوف إذا ما تسلل إلى داخل النفس الإنسانية جردها من قدراتها على الإبداع، فالخوف العدو الأول للإبداع بل إنه يشل قدرة الفرد على الدفاع عن نفسه لتحل في أعماقه هزيمة قاتلة، ولعل البعض على علم بالقصة التي ذكرتها كتب التأريخ عن ذلك المغولي، كان على حصانه في إحدى أزقة بغداد فوجد في طريقه مجموعة من الأشخاص فوقف عليهم وقال: لا أريد أن يتحرك أحد منكم من مكانه فأنا ذاهب لأجلب السيف وأقتلكم به، فكان له ما أراد؛ لأن الخوف شلَّ قدرة هؤلاء حتى على التفكير السليم وليس الفعل السليم فقط.
ومما هو لازم أيضاً لصياغة هذا الإنسان تحريره من القوالب والأطر الفكرية التي صاغتها النظم العلمانية في أقطارنا عبر أكثر من نصف قرن من الزمن غدت فيه هذه القوالب قرآناً يمجد حتى أحياناً بين الملتزمين دينياً، بحكم التكرار المستمر في ترديد هذه الأفكار وهيمنة النظم العلمانية على معظم وسائل الثقافة، ولاسيما الفعالة منها والمؤثرة. بل إنك تجد كثيراً من الناس يردد أن النظم العلمانية هي الأكثر فائدة لهذه الأمة، بفعل الهيمنة الإعلامية ، وربما بسبب ممارسات خاطئة هنا وهناك، راحت تعرض على أنها الدليل الجازم على عدم صوابية المشروع الإسلامي، مع كل السوءات والعورات المكشوفة والظاهرة للنظم العلمانية، وهذا يعكس في كل الأحوال حاجة الأمة إلى إدراك حقيقي للمعطيات الشرعية التي تمكنها من التفكير بصورة شرعية صحيحة.