أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 7 من 7

الموضوع: القدريات المحبطة

  1. #1
    الصورة الرمزية خليل حلاوجي مفكر أديب
    تاريخ التسجيل : Jul 2005
    الدولة : نبض الكون
    العمر : 57
    المشاركات : 12,545
    المواضيع : 378
    الردود : 12545
    المعدل اليومي : 1.83

    افتراضي القدريات المحبطة

    القدريات المحبطة
    د. موفق سالم نوري.
    مما لا ريب فيه أن الواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية اليوم يكشف عن حالة من التراجع والنكوص الحضاري والسياسي وفقدانها القدرة على الإمساك بزمام التغيير نحو الأفضل، فباتت الهوة تزداد اتساعاً بينها وبين الأمم الآخذة بزمام المبادرة الحضارية، ومما لا ريب فيه أيضاً أن هذا الواقع كان أحد أهم الأسباب التي تقف وراء ظاهرة (العنف) التي اصطلح عليها الغرب بـ(الإرهاب) ووجد فيها خطراً جسيماً عليه وعلى مصالحه، فراح يبحث عن ضرورة التغيير في واقع الأمة، لكن التغيير الذي يريده هو ـ أي: الغرب ـ من أجل سلب إرادة الأمة في التغيير كما تريد هي.
    ولعل من بين الأسباب المهمة التي قادت إلى مثل هذا التراجع في واقع الأمة، تراجع دور الفرد وانحسار فاعليته انحساراً جلياً واضحاً، مع إحساس عميق باللاجدوى من أية مبادرة، وأن مسار الحياة اليومي الروتيني يكفي وحده لتدور عجلة الحياة دورتها التقليدية، الأمر الذي يعني أن مستوى الأداء والإنجاز قد هبط عند الأفراد إلى أدنى حد يمكن تصوره بالمعدل العام لأفراد المجتمع، في وقت مست فيه الحاجة إلى ضرورة رفع مستوى الأداء والإنجاز إلى مستويات أعلى من أجل تقليل فارق الهوة بين الواقع وما ينبغي أن يكون عليه الأمر في المنظور الشرعي، أو بالقياس إلى واقع التقدم الحضاري الذي بلغه العالم الخارجي، إن مشهد الفرد هذا في واقع الأمة المعاصر يقف وراءه جملة من الأسباب من بينها ما أسميناه بـ(القدريات المحبطة) المعبرة عن فهم شائه للقدر، الذي يتجلى بالتصورات الآتية:
    1\ القدرية اليائسة
    تقوم هذه القدرية على فهم الواقع بوصفه قدراً إلهياً عقابياً تستحقه الأمة بسبب تخليها عن المنهج الشرعي في صناعة الحياة، إذ لابد لها من أن تأخذ هذا القسط من العقاب، الأمر الذي يعني ضرورة الركون والاستسلام إلى هذا الواقع والقبول به، سواء كان احتلالاً بغيضاً أم حاكماً محلياً جائراً، معللين ذلك بالأثر القائل: (عُمَّالكم كَأعْمَالِكُم وكيفما تكونوا يولّى عليكم) ومع أننا لا نختلف في أن مآل الأمر إلى المشيئة الإلهية، فإن الله تعالى جعل للكون والحياة لمّ.ا خلقهما سنناً ونواميس تحكم حركة كل مَنْ في الكون والحياة بأوجهها كافة، هذه السنن والنواميس تحكم العلاقات بين الظواهر الطبيعية والحياتية، فإذا ما اختلت هذه العلاقات قاد الأمر إلى نتائج مغايرة لما يعد في مصلحة الإنسان، التي لا تتحقق إلا إذا توافق سلوكه مع هذه السنن والنواميس، وهكذا يمكن فهم قيام الدول والحضارات، ومن ذلك أن مجافاة الأمة لمنهجها الشرعي قاد إلى واقع الحال المعاصر.
    هنا نرى ضرورة تفهم الاعتبارات الآتية: إذا كان هذا الواقع عقاباً ربانياً، فهل أن هذا العقاب حالة نهائية ينبغي الاستسلام لها أم أنه قرين بمنهج معين إذا ما عدلت عنه الأمة تغير حالها وانتفت علة العقاب؟ وفي هذا السياق جاء قوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)[الرعد:11] ليدل أنه ما من ثبات على حالة عقابية معينة، بل إن الأمر مرتهن بتوجهات الأمة نفسها، فإنها إذا ما التزمت السير نحو التزام المنهج الشرعي، فإن ذلك يعني بالنتيجة خروج الأمة من مأزقها الحضاري (العقاب) والانتقال إلى حالة (الشهود الحضاري) الذي يعبر عن قوة الأمة وتفوقها وإمساكها بزمام المبادرة الحضارية.
    وإذا كانت الحال التي عليها الأمة عقاباً وابتلاءً، وإذا كان على المرء أن يقابل الابتلاء بالصبر الجميل، فإنّ ذلك على وجه العموم أن يصبر المرء ويتحمل، إلا أنّ لكل نوع من الابتلاء التعامل الخاص معه، فإذا كان المطلوب من المرء الصبر الجميل على مصيبة الموت للأحبة ـ مثلاً ـ فإن مصيبة الاحتلال لا تقابل بالصبر الجميل، بل بالعمل على وفق المنهج الشرعي، وذلك ما يريد الله أن يتبينه في عباده، فإن استجابت الأمة لدواعي العمل الشرعي ظهرت معونة الله تعالى على ذلك بكشف الابتلاء عنها، أما إذا فهمت الأمة الأمر على غير الفهم الشرعي الصحيح فإن عليها أن تتحمل تبعات فهمها هذا.
    ثم إذا كان واقع الأمة هذا ثمرة لخلل في المنهج الذي سار عليه جيل أو أجيال من الأمة فاستحقت عليه العقوبة فإن الأجيال اللاحقة لا تتحمل وزر ذلك، إلا بقدر ما تتعاطى به من منهج شرعي فـ(كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)[المدثر:38] والاستسلام لقدر العقوبة ليس له من ثمرة سوى استحقاق المزيد منها، في حين أن الخلاص من استحقاق العقوبة الإلهية له مسار واحد لا ثاني له هو بالعودة إلى المسار الشرعي في حياة الأمة، فالأمر أولاً وآخراً رهين بما تنطوي عليه (إرادة) الأمة واختيارها.
    2\ قدرية البشارات
    وهي القدرية التي تؤمن بأن البشارات قد تواترت في الكتاب والسنة، وقضت بحتمية انتصار الأمة وتمكينها في الأرض بقيام دولة الإسلام (دولة الخلافة) وأن الخلافة آتية لا ريب فيها، بوصفها قدر إلهي لا راد له وعليه فإن بعضهم وجد أن لا ضرورة للسعي والعمل، وأنه لا مسوغ من تعريض الأمة للخطر.
    إن الاعتقاد بهذه البشارات ليس أمراً سيئاً ولاسيما أن الكتاب والسنة الصحيحة قد دلت عليها، بل إن الثقة بهذه البشارات فيه ما يرفع المعنويات ويوطد الثقة بالمستقبل، ويجعل القدم راسخة على طريق العمل، بيد أن ذلك يتطلب إدراك حقيقة مهمة، أن هذه البشارات ليست سياقاً زمنياً تلقائياً، وهي ليست مما يقدم على أطباق من الذهب، ولو كانت الأقدار تفعل ذلك لكان رسول الله عليه الصلاة والسلام أحق الناس بذلك، وأولى به من سواه، لقد تعرض هو وصحبه الكرام إلى شتى الصنوف من الأذى، وبذلوا الأرواح والمهج والأموال وجاهدوا في الله حق جهاده ونصروا دين الله حق نصره فأعزهم الله تعالى ومكن لهم في الأرض، فهم لم يقعدوا منتظرين الأقدار أن تدور لصالحهم، فهذه البشارات لا تأتي إلا لمن يسعى إليها ويعمل من أجلها، والأخذ بالأسباب من سنن الله في خلقه، وعليها تدور أقداره، فالأسباب من الأقدار، والمرء بين سببين، إما أن يأخذ بأسباب النجاح وإلا يكون قد أخذ بأسباب العجز وعلى ذلك تتصرف الأقدار.
    وفي هذا الإطار يأتي قوله تعالى: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد:7] ولكن هل يأتي نصر الله ابتداءً؟! ربما اعتقد بعض العاملين في الساحة الإسلامية أن مجرد المباشرة بالعمل لنصرة دين الله تستوجب مجيء النصر الإلهي، ومن واقع سيرة الدعوة الإسلامية يتبين لنا أن الأخذ بالأسباب أخذاً حقيقياً جاداً ومثابراً، يعبر عن صدق النية وصدق العزيمة وصدق الهمة، هو الذي يأتي بالنصر من عند الله، الأمر الذي يعني أن لا يبخل العاملين بشيء من جهدهم ولا يدخروا وسعاً في ذلك، عندها يحق لهم انتظار الفرج والنصر من عند الله، وحق لهم أن ينصرهم الله، وهكذا كان الدرس بليغاً في دلالته في معركة بدر الكبرى، فقد أبلى المسلمون بلاءً لا مزيد عليه في صدق النية والعزيمة والهمة، فلم يبخلوا بشيء من الأسباب القلبية والمادية، فجاءهم المدد من الله تعالى، لمًّا أَعانهم بملائكته فكان نصراً مؤزراً للإسلام وللمسلمين، وتكرر الدرس مرة أخرى في معركة الأحزاب، فالخطر كان على أشده حتى بلغت القلوب الحناجر من هول ما استشعره المسلمون من خطر، انظر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً* إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً}[الأحزاب:9-11].
    لقد بلغت بهم المحنة مبلغاً كبيراً، حتى استشعروا الأرض تتزلزل من تحت أقدامهم، وأن عدوهم قد أطبق عليهم من كل ناحية، إلا أن هذه الفئة من المؤمنين لم تفقد الثقة بربها، ولا بنفسها، فهم أولاً لم يهنوا ولم يضعفوا ولم يلن لهم جانب في حق الله ودينه، ولم يخطر لهم المساومة على ذلك، معتقدين صحة قضيتهم وأحقيتها فزادهم هذا إيماناً بالله، عندها تفجرت قدراتهم المادية ولم يدخروا وسعاً في الثبات والعزيمة، فحفروا الخندق وثبتوا من ورائه، عندها أمدهم الله تعالى بنصره تحمله ريح عاتية قلعت معسكرات العدو وجعلتهم يولون لا يلتفتون إلى شيء، فالدرس هنا يقوم على ضرورة تجنب الشعور بالإحباط وضرورة الثبات وعدم التقصير في شيء من حق الله تعالى ونصرة دينه.
    وفي هذا السياق تأتي عقيدة (المهدي) بوصفها إحدى الغيبيات التي تكلم فيها الرسول عليه الصلاة والسلام ، فالأحاديث في المهدي كثيرة، وقد ثبت أنه فيها ما هو صحيح وما هو ضعيف ومجموع الصحيح منها يفيد التواتر المعنوي، بحسب ما قرره بعض العلماء، ولكن السؤال الخطير هنا كيف يجب على الأمة أن تتعامل مع هذا الموضوع؟ في هذا السياق يحسن ملاحظة الجوانب الآتية:
    أولها أن كلمة (المنتظر) في الإشارة إلى المهدي لم ترد لا في سنة النبي عليه الصلاة والسلام ولا في كلام أحد من السلف، بل أن هذه المفردة دخيلة على ثقافتنا، الأمر الذي يعني أن الأمة ليست بصدد (انتظار) هذا المهدي ولا تعليق شيء من الأمور على ظهوره .
    ثانياً : أن الإشارة إلى المهدي في الأحاديث النبوية جاء بصيغة الإخبار عن علامة من علامات قيام الساعة، كما هو حال الخبر عن الدابة وعن الدجال وعن المسيح وعن طلوع الشمس من مغربها، فهو مجرد خبر عن علامة من هذه العلامات، ومرة أخرى فإنه لا يعول على ظهوره تأخير فعل الأمة وعملها من أجل إقامة دولة الإسلام، والقعود عن العمل هو الذي يرمي بالأمة إلى مهاوي الإحباط.

    3. القدرية الغيبية:
    تلك القدرية التي تستند إلى شيء من التنجيم أو محاولة قراءة الغيب عبر طلاسم معينة، تنبئ عن زلازل أو براكين مدمرة أو اصطدام الكواكب والنجوم والأجرام السماوية ببعضها أو بالأرض لتسفر عن تدمير قوة العدو، أو تدمير العدو نفسه، وربما عبث بعضهم بالنص القرآني الكريم بطريقة المنجمين المحترفين بغية الوصول إلى مثل هذه الاستنتاجات، ضاربين صفحاً كل ما يتعلق بالأسباب، متجاهلين دور الإنسان وإرادته وفاعليته، وربما راح هؤلاء يقدرون المواعيد والأزمنة التي ستشهد مثل تلك الأحداث الهائلة، وتمر الأيام والسنون لتبقى صرخة أبي تمام مفحمة لكل متنبئ دجال (السيف أصدق أنباءً من الكتب) والكتب هنا كتب الدجل والشعوذة والمنجمين.
    إن الركون إلى مثل هذه الخيالات وأحلام اليقظة هو أكثر ما يفجع هذه الأمة ويرمي بها في مهاوي التراجع والانحطاط، مثل هذه الخيالات إذا ما تسللت إلى عقول الأمة فإنها تزرع فيها الاسترخاء والركون إلى أقدار كاذبة ليست حقيقية لكنها تصيب أوصال الأمة بخطر وشلل حقيقيين فالأمة بحاجة اليوم إلى أن تؤهل نفسها للنصر الحقيقي، بأن تحقق في ذاتها وواقعها نهضة حقيقية لا نهضة زائفة، فتراجع دور الأمة لا يعود إلى أن لعدوها تفوقاً وقوة فحسب، بل أن الأمة نفسها غير مؤهلة لتحقيق ذاتها بسبب مفاصلتها مع الحياة الشرعية المفترضة، فهل يكفي أن يدُمّر العدو حتى تظهر أمتنا الإسلامية، قائدة للإنسانية من جديد؟! بل إن الأمر يحتاج إلى أن نمتلك زمام المبادرة الحضارية مرة أخرى، لنستحق دور القيادة الحضارية إنسانياً من جديد.
    4\ قدرية القوى العظمى
    وهي نوع خطير لفهم طبيعة مجريات الأحداث في السياسة الدولية، ترى أن كل شيء يتحرك بموجب الخطط السرية المحكمة للقوى الكبرى وللمنظمات السرية الخطيرة التي باتت تتحكم بكل شيء في العالم، بموجب شبكة معقدة من الخطط التي يحيكها دهاقنة دهاة، يصعب اختراقها، بل يستحيل ذلك، فيتغير كل شيء في العالم على وفق إيقاع معين مسيطر عليه بإحكام، وإزاء ذلك فنحن لسنا سوى بيادق مغلوبة على أمرها ضعيفة بلا حول ولا قوة، وهذا الوصف عند أصحاب هذه الرؤية ينطبق على الجميع شعوباً وحكومات.
    إنّ مثل هذه الرؤية تولّد في الأمة إحساساً بالضآلة والتقزم والهامشية، فتتعطل في الأمة قدرتها، وتشل فاعليتها لتغدو أمة منفعلة جلّ سلوكها يقوم على رد الفعل، من دون أن يكون لها أدنى فعل، ومن هنا تولدت أسطورة وتفخمت حتى غدت شبحاً مرعباً يعرف بـ(الماسونية) ومثلها يقال عن (المخابرات المركزية الأمريكية) وغيرها من القوى السرية أو العلنية.
    وإذا بالكثيرين يشعرون إزاءها بالإحباط والعجز وعدم القدرة على المواجهة، متناسين في ذلك أمرين مهمين:
    الأول: أن من ينصر دين الله لابد من أن ينصره الله، وأن نصر الله آت لا محالة مع الأخذ بالأسباب، بالتالي فإن هذه القوى مهما بلغت من القوة والجبروت والطغيان، فإن فيها مقتلاً يمكن اكتشافه، فالكمال لله تعالى وحده، أما هذه فمهما بلغت فإنها قوى بشرية، يصح عليها ما يصح على سائر البشر من نقص فإذا ما توفرت الإرادة الحقيقية والعزيمة الصادقة والعمل المتقن المشفوع بالنية السليمة، فإن بالإمكان مواجهة هذه القوى والتغلب عليها، فإن الله تعالى يأتي بنيانهم من القواعد فيتراكم على رؤوسهم ثم يغدو هباءً منثوراً، بيد أن الأمر يحتاج إلى كسر حاجز الخوف والتردد، والأخذ بأسباب الجرأة والإقدام {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}[آل عمران:159].
    هنا لابد من استذكار رسالة لعمر رضي الله عنه وجهها إلى سعد بن وقاص رضي الله عنه وهو في طريقه لمواجهة أعداء الإسلام، خاطبه فيها بقوله: اعلم يا سعد أنت ومن معك من الأجناد إنما تنصرون على عدوكم بطاعتكم لله، فإذا عصيتموه استويتم أنتم وعدوكم، فتحالون إلى الأسباب.
    هذه الرسالة عبرت عن عمق الرؤية الشرعية لدى عمر رضي الله عنه، وهو ما ينطبق على واقعنا أشد الانطباق، فلما خالفنا المنهج الشرعي اختلفت علينا الأحوال فآل حالنا إلى شرِّ حال.
    الأمر الثاني: أن نتعامل مع هذه القوى على أساس متوازن من غير تهوين أو تهويل، لأن كل منهما يعطي صورة شائهة عن العدو، تجعل التعامل معه لا يستند إلى أسس صحيحة من الناحية التقنية.
    على أية حال فإن هذه القوى لها إرادة، ولكن إرادتها هذه ليست إرادة إلهية بل هي إرادة بشرية قد تصيب وقد تخيب، وأن لها مقاتل إن تمّكنا منها كانت لنا الغلبة، وإن لم نتعرف عليها بقيت الدائرة تدور علينا، فالأمر في جوانب رئيسة منه يتعلق بنا، وفي رسالة عمر ثمة درس بليغ لابد من إدراكه، حتى لا نقع في إحباط وأسر تصورات خاطئة ومنحرفة.
    5\ القدرية التأريخية
    وهي التي تعرف في إطار فلسفة التأريخ بـ(الحتم التاريخي) الذي يعني حتمية وضرورة التحولات التأريخية على وفق اتجاهات ومسارات معينة، قال بها أصحاب هذه المدرسة أو تلك كلٌ في إطار فهمه الخاص لحركة التأريخ، ومعطيات هذه الحتمية قد تكون سالبة أو موجبة فيما ينتظر الأمة من تحولات، فربما يرى البعض أن عربة العولمة ماضية في طريقها، ومن لم يركب فيها سحقته، وبالتالي فإنه لابد لهذه الأمة من أن تحدد مصيرها على هذا الأساس فإما النجاة بامتطاء عربة العولمة، وإما الانسحاق الحضاري التام، وهكذا راح مفلسفو العولمة يؤكدون هذه المفاهيم من خلال نظرياتهم (نهاية التأريخ) و(صِدام الحضارات) وقد يجد بعضهم رأياً آخر فراح يبشر بحتمية انهيار النظام الرأسمالي، كما انهار رديفه النظام الشيوعي، إن هذه التصورات وغيرها إنما تنبئ عن تصورات بعض المفكرين وهي الأخرى قد تصيب وقد تخيب، وفي مثل هذه الحالة يجب أن لا يبقى مصير الأمة معلقاً على احتماليات تأريخية أقرب مما هي حتميات تأريخية، لذا لا يجدر تعليق الأمر بعيداً عن الفعل المباشر للأمة بنفسها في تقرير مصيرها، على أن لا يعني استقراء أفق المستقبل الوقوع في أسره المحبط للفعاليات المباشرة للأمة، إذ يتحتم التأكيد مرة أخرى على ضرورة مراعاة سنة الأخذ بالأسباب، وهي من سنن التغيير في واقع الأفراد والجماعات على حدٍ سواء حتى تتمكن الأمة من أخذ مكانها المناسب في سياق حركة التأريخ، وعدم الاستسلام لتحولات على افتراض أنها تلقائية وهي ليست كذلك، فحركة التأريخ حركة واعية مقصودة تخدم من يفعِّلها وتسحق من يتجاهلها أو يتغافل عنها.
    6\ قدرية الأسباب
    هذه قدرية أخرى، قد تختلف بعض الشيء في الشكل على ما تقدم، لكنها تشترك معها في النتيجة، إنها القدرية السببية التي يعتقد أصحابها أن مجرد الأخذ بالأسباب كفيل بتحقيق ما ينشد من عمل، ومع أهمية الأسباب، غير أن هذه وحدها لا تكفي، بل لابد أن يترافق معها أو يتقدم عليها التوكل على الله وحسن الظن به، وذلك ما يعرف بالأسباب القلبية، ففي الوقت الذي يعمل فيه المرء بأسباب الجوارح لابد أن يأخذ قلبه بالأسباب أيضاً، فيتعلق قلبه بالثقة بالله تعالى، وهذا يتطلب من جانبه ملاحظة الجوانب الآتية:
    إخلاص النية لله في العمل، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك، لا يقبل شريكاًُ له في العمل، وكل عمل فيه شرك صغيراً كان أو كبيراً فإنه عمل محبط .
    ثم لابد من أن يكون العمل صالحاً (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)[الكهف:110]، ومن صلاح العمل أن يكون تاماً كاملاً لا نقص فيه.
    وذلك يتطلب أعلى درجات الصدق مع الله، الصدق في النية، والصدق في العزيمة، والصدق في الهمة، والصدق في إتمام العمل على أفضل وجه، بقدر المستطاع، لأن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، غير أن انعقاد الصدق في القلب ميسور لكل من نوى عليه.
    عند هذا الحد على المرء توقع المعونة من الله، ويجدر التنبه أن هذه المعونة على درجتين وهذا مقصد الأمر هنا، معونة من الله تمكن المرء من الأخذ بالأسباب وتهيؤها له، ومعونة من الله تعينه على الانتفاع بالأسباب، فليس كل من أخذ بالأسباب انتفع بها، فكم من فئة كثيرة آخذة بالأسباب غلبتها فئة قليلة، لذلك فإن الاعتماد على الأسباب وحده لا يكفي والثقة لابد من أن تكون بالله لا بالأسباب، والتعويل على الأسباب وحده جدير بالإحباط، وأن حسن التوكل على الله وحسن الظن به من أبرز أسباب الظفر والنجاح.
    إن التخلص من أسر هذه القدريات أمر بالغ الأهمية والخطورة من أجل صياغة إنسان النهضة الذي يتحمل مسؤولية الارتقاء بالأمة نحو نهضتها الجديدة المنشودة، بيد أن صياغة هذا الإنسان وتكوينه ليس عملاً ثقافياً تقليدياً بل هو عمل معقد وشاق في إطار التحول الشامل نفسه، هذه العملية لا تتم عبر طريق الترتيب التقليدي للمراحل، إذ يحتاج الأمر إلى جملة مداخلات ميدانية وفكرية تهدف إلى بناء إنسان يرتكز على معطيات عدة منها، بل على رأسها تفعيل حركية الفرد المسلم، بحيث يدرك أهميته وأهمية ما يفعله ويقدمه من أجل تحقيق نهضة الأمة، فطالما أن التغيير لابد منه، فإنه لابد أيضاً من أن يكون تغييراً داخلياً وليس خارجياً، وهذا التغيير لابد له من أدوات، أفراد فاعلون قادرون على تقديم الجهد بكل تجلياته من أجل إحداث هذا التغيير.
    وما يجب أن يدخل في بناء هذا الإنسان أيضاً تحريره من (رُهاب السلطة) تحريره من الخوف أو الإحساس الزائد به الذي يشل فاعليته ويقمعه قبل أن تمتد إليه أيدي رجال السلطة، إن هذا الخوف إذا ما تسلل إلى داخل النفس الإنسانية جردها من قدراتها على الإبداع، فالخوف العدو الأول للإبداع بل إنه يشل قدرة الفرد على الدفاع عن نفسه لتحل في أعماقه هزيمة قاتلة، ولعل البعض على علم بالقصة التي ذكرتها كتب التأريخ عن ذلك المغولي، كان على حصانه في إحدى أزقة بغداد فوجد في طريقه مجموعة من الأشخاص فوقف عليهم وقال: لا أريد أن يتحرك أحد منكم من مكانه فأنا ذاهب لأجلب السيف وأقتلكم به، فكان له ما أراد؛ لأن الخوف شلَّ قدرة هؤلاء حتى على التفكير السليم وليس الفعل السليم فقط.
    ومما هو لازم أيضاً لصياغة هذا الإنسان تحريره من القوالب والأطر الفكرية التي صاغتها النظم العلمانية في أقطارنا عبر أكثر من نصف قرن من الزمن غدت فيه هذه القوالب قرآناً يمجد حتى أحياناً بين الملتزمين دينياً، بحكم التكرار المستمر في ترديد هذه الأفكار وهيمنة النظم العلمانية على معظم وسائل الثقافة، ولاسيما الفعالة منها والمؤثرة. بل إنك تجد كثيراً من الناس يردد أن النظم العلمانية هي الأكثر فائدة لهذه الأمة، بفعل الهيمنة الإعلامية ، وربما بسبب ممارسات خاطئة هنا وهناك، راحت تعرض على أنها الدليل الجازم على عدم صوابية المشروع الإسلامي، مع كل السوءات والعورات المكشوفة والظاهرة للنظم العلمانية، وهذا يعكس في كل الأحوال حاجة الأمة إلى إدراك حقيقي للمعطيات الشرعية التي تمكنها من التفكير بصورة شرعية صحيحة.
    الإنسان : موقف

  2. #2
    الصورة الرمزية أبوبكر سليمان الزوي قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Jun 2007
    الدولة : حيث أنا من أرض الله الواسعة
    المشاركات : 478
    المواضيع : 29
    الردود : 478
    المعدل اليومي : 0.08

    افتراضي

    تحية رمضانية إيمانية أخوية .. الأستاذ الجليل خليل حلاوجي ..

    بعد اطلاعي على هذا الموضوع الهادف وما هو مطروح فيه من أفكار وتحليلات - باسم د. موفق سالم نوري. .. إسمح لي بالآتي ..

    هذا تلخيص للموضوع : لمن لا يُسعفه الوقت من الزملاء لقراءته كاملاً .. مع أني ادعو إلى قراءته كاملاً لما فيه من أفكار وتحليلات وتنبيهات وبراهين ..

    التلخيص :

    1- وضع الأمة المتردي - هو أمر غير طبيعي ، وهو الذي يقفُ خلفَ ظهور العنف .
    2-الغرب يحارب العنف عن طريق الأمة - وفق رؤيته ومصالحه .
    3-غياب دور الفرد هو أحد الأسباب الرئيسية لتراجع مكانة الأمة .. ومن أسباب انحسار فاعلية الفرد وتقاعسه عن أداء دوره هو ما أسماه الكاتب هنا بالقدريات المحبطة وهي انتشار الأفكار الآتية :
    1-القدرية اليائسة .. بمعنى سيطرة الفكر الذي يعتبر أن الأمة تقضي عقوبة إلهية - لا جدوى من محاولة تغييرها حتى يأذن الله .
    2-قدرية البشارات .. بمعنى أن انتصار الأمة آتٍ لا ريب ، ولذلك فلا ضرورة لإجهاد الفكر والجسد .
    3-قدرية الغيبية .. والتي تتوقع تدمير قوة العدو بفعل الطبيعة أو معجزة ما - بحكم أن العدو كافر ظالم .. وحينها ستنتصر الأمة .. فلننتظر .
    4- قدرية القوى العظمى .. وهي التي يصفها الكاتب بالخطيرة .. والتي مفادها أن السياسات البشرية التي تـُدير شئون الحياة على الأرض وتسوس العلاقات الدولية هي أعقد وأبعد من أن نعيها أو نؤثر فيها نحن العرب المسلمون .. شعوباً وحكاماً .
    5- القدرية التأريخية .. وهي التي يؤمن أنصارها بأن التحولات التاريخية تفرض نفسها ، ولها سياق وأزمنة ونتائج .. ومن العبث الوقوف في وجهها .
    6- قدرية الأسباب والأخذ بها .. ويرى الكاتب أنها إيجابية إلى حد كبير ، ولكنها لا تؤتي أُكلها إلا مصحوبة بإيمان صادق .. قولاً ونيةً وعملاً .

    ويرى الدكتور .. موفق .. ضرورة تخليص الإنسان من أسر هذه القدريات ، ومن القوالب الفكرية التي صاغتها الأنظمة العلمانية في أقطارنا عبر القرن الماضي .. وأن ذاك التخليص يحتاج إلى جهود عملية مباشرة ، وليست تنظيرية فقط ..

    والآن أخي خليل .. يطيب لي أن أُعلق بما يلي :

    1- أنا أثق تماماً ولا يخامرني أدنى شكٌّ في أن قيام دولة إسلامية بالصورة المثالية الخيالية التي يحلو للبعض السفر لها في رحلات أوهامهم عبر الزمن مستقبلاً وماضياً ..
    هو أمر أقرب إلى الدروشة والبداوة - منه إلى كونه فكر أو إيمان ؛ .. فهو أمـر لم يكن يوماً واقعاً معاشاً ، ولن يكون مستقبلاً - إلا في أحلامهم .. لأنه ببساطة أمر يفتقد إلى منطقيات التطبيق البديهية .

    2- الأمجاد التاريخية التي يتحدث عنها ويتغنى بها البعض .. كانت قد قامت في ظل دكتاتوريات لا تُقيم وزناً للإنسان والفكر وحرية المعتقد ..
    وكانت دوافعها في جُـلها عبارة عن بحثٍ عن شهرة أو تنافس على مكانة ، أو ثأر أو عناد .. الخ ؛ وقلّ منها ما كان مدروساً ويحوي حيزاً من العقلانية والمعطيات المنطقية ؛ ..

    ولذلك كانت وما تزال أمجاد كل دولة وإنجازات حاكمها .. تنهار بمجرد اختفائه - كشخص ؛ وتزول بمجرد زوال الدولة - اسماً .

    3- نحتاج إلى جرأةٍ أدبيةٍ وتأملٍ فكريٍ ومنابرٍ كثيرةٍ نقول من خلالها .. أن الدنيا يُعطيها الله للمؤمن كما الكافر ؛ وأن انتظار يومٍ تنهض فيه الأمة بمجرد الدعوة للنهوض .. هو عبث فكري ووهم أدبي ينبغي القفز فوقه ورفع الصوت عالياً بالقول أن من يؤمن بأن الله معه وحده - أو أنه إلهه وناصره دون غيره ؛ وأنه قد يخرق الناموس من أجله -دون الحاجة للأخذ بالأسباب - في أية لحظة - كما هو حالنا اليوم .. فإنه لن يجد نفسه مضطراً لبذل أدنى جهد .

    فالأمة كمجتمعات لم تكن يوماً بعد عهد الرسول الكريم (ص) بأفضل من حالها اليوم من ناحية الصحوة الدينية . .. وربما احتجنا اليوم إلى لجم هذه الصحوة ، وضمان عدم تحولها إلى أفكار خرافية تلتبس معها الأمور على الجميع .. كظاهرة الانتحاريين .. التي لا علاقة لها بالدين ولا بالجنة أو بنصر الله .. فهي فكر أيديولوجي فلسفي - يُحيط بعقل الإنسان ، فيمنعه من التفكير ويُعطّل عمل المنطق لديه ، ويُسفـّه في نظره كل ما عداه من أفكار ..
    حيث أن ما يُسمى بالعمليات الاستشهادية الآن - أو الانتحارية .. هو فكر قديم كما نعلم ، وقد ظهر في الحرب العالمية الثانية فيما يعرف بالـ(كيميكازي ) لدى اليابانيين ، عندما شعروا بقرب الهزيمة ، فأقنعهم امبراطورهم بما يُعرف بصكوك الغفران لمن يُفجر نفسه في العدو .. ففعلوا وهم ليسوا مسلمين ولا مؤمنين ، ومع ذلك فإنهم بذاك الفكر كادوا أن يهزموا أمريكا ، مما اضطرها لاستخدام السلاح النووي .

    ثم ما هو النهوض المرتقب ..! فهذه دول عربية إسلامية حرة -ليست محتلة - وغنية اقتصادياً ، ومنها ما لا يصل تعداده المليون نسمة . ومع ذلك فقد عجزوا وتخلفوا بكل المقاييس . ولم نستطع الحصول حتى مثال صغير واحد ناجح للدولة الإسلامية المرتقبة .!

    4- ما لفت انتباهي حقيقة وأثلج صدري .. في الموضوع وأؤكد عليه وأؤيده بشدة ، وقد أكدته مراراً في غير مناسبة .. هو تركيز الكاتب على أهمية دور الفرد - وحقيقة غياب هذا الدور الآن .. بسبب تهميشه بتلك القدريا ت وبغيرها .
    وكذلك قوله بأن حل المشكلة وإرجاع ثقة الإنسان في نفسه - للعب دوره كفرد .. يحتاج منا - ربما - نزولاً إلى الميدان بشكل عملي مباشر .. ولا تكفي الأطر والوسائل المتبعة حالياً . فالمرض مستفحل .. أعاذنا الله وإياكم .

    كل عام وأنت كما تحب .. بإذن الله .. أخي خليل ..
    إذا سرَّكَ ألا يعود الحكيم لمجلسك .. فانصحه بفعلِ ما هو أعلم به منك !

  3. #3
    الصورة الرمزية خليل حلاوجي مفكر أديب
    تاريخ التسجيل : Jul 2005
    الدولة : نبض الكون
    العمر : 57
    المشاركات : 12,545
    المواضيع : 378
    الردود : 12545
    المعدل اليومي : 1.83

    افتراضي

    الأستاذ الحبيب ابو بكر الزوي :

    اعتقد معك جازما ً أن دور المفكرين اليوم دورا ً مزدوجا ً فهم من جهة يحاولون تجديد الوعي الشعبوي وهم من جهة ثانية يراقبون سلطة النص التراثي وما علق به من تشوهات .

    وهنا

    نجد استاذنا الدكتور موفق الجوادي ينظر لهذه المهمة النبيلة مشكورا ً

    \

    ولي عودة لتمحيص رؤيتك الناقدة أيها الأخ الحبيب

    \

    بالغ تقديري

  4. #4
    الصورة الرمزية خليل حلاوجي مفكر أديب
    تاريخ التسجيل : Jul 2005
    الدولة : نبض الكون
    العمر : 57
    المشاركات : 12,545
    المواضيع : 378
    الردود : 12545
    المعدل اليومي : 1.83

    افتراضي

    والآن أخي خليل .. يطيب لي أن أُعلق بما يلي :


    1- أنا أثق تماماً ولا يخامرني أدنى شكٌّ في أن قيام دولة إسلامية بالصورة المثالية الخيالية التي يحلو للبعض السفر لها في رحلات أوهامهم عبر الزمن مستقبلاً وماضياً ..
    هو أمر أقرب إلى الدروشة والبداوة - منه إلى كونه فكر أو إيمان ؛ .. فهو أمـر لم يكن يوماً واقعاً معاشاً ، ولن يكون مستقبلاً - إلا في أحلامهم .. لأنه ببساطة أمر يفتقد إلى منطقيات التطبيق البديهية .


    2- الأمجاد التاريخية التي يتحدث عنها ويتغنى بها البعض .. كانت قد قامت في ظل دكتاتوريات لا تُقيم وزناً للإنسان والفكر وحرية المعتقد ..
    وكانت دوافعها في جُـلها عبارة عن بحثٍ عن شهرة أو تنافس على مكانة ، أو ثأر أو عناد .. الخ ؛ وقلّ منها ما كان مدروساً ويحوي حيزاً من العقلانية والمعطيات المنطقية ؛ ..


    ولذلك كانت وما تزال أمجاد كل دولة وإنجازات حاكمها .. تنهار بمجرد اختفائه - كشخص ؛ وتزول بمجرد زوال الدولة - اسماً .

    أخي الحبيب الأستاذ أبو بكر

    هذه هديتي لك :

    إنسان ما بعد الموحدين

    ( نحو نظرية كوبرنيكوس اجتماعية )

    بقلم خالص جلبي

    في عام 1198 م مات (ابن رشد) بعد أن طرده الغوغاء من مسجد قرطبة ونفاه الملك الموحدي الى قرية الليسانة اليهودية بعمر السبعين. وبعد عشرين عاماً طحنت الدولة الموحدية بجنب مدينة (ثيوداد رويال) في الاندلس في معركة العقاب في أفظع عقاب. وبعدها تهاوت الحواضر الاندلسية كورق الخريف. بالنسيا 1236. قرطبة 1238 . وأخيرا اشبيلية عام 1248 م، ومع أفول عصر الموحدين دخل العالم العربي ليل التاريخ وأنتج انسان مابعد الحضارة كما في نفايات الطاقة بعد استهلاكها. وهكذا تفعل الحضارة بالانسان تستهلكه مادة خام وتصنعه انسانا متفوقا ويخرج منها متبخر الطاقة الابداعية. يظهر بعدها على السطح انسان يتقن التمثيل ويؤدي كل الأدوار بدءً من الصعلوك وانتهاءً بالامبراطور. قد تبخر عنده المثل الأعلى. ووقع في شبكة (علاقات القوة) في مجتمع فرعوني تحول الى (مستكبرين ومستضعفين). يعيش (كالاميبيا) على شكل كائن رخوي بدون مفاصل تحدد حركته أو عمود فقري يقيم صلبه. يحل مشاكله بمد أذرعة كاذبة قابلة للتشكل على أي صورة فيمكن أن يأخذ صورة (قلم) يوقع كلمة نعم في كل انتخاب. كما يمكن أن يكون (بوقاً) مرددا مايطلب منه من شعارات. أو (بندقية) تقوم بحفلات الاعدام حسب الأوامر. أو (سيارة) جاهزة للقيادة لمن يحكم قبضته على مقودها ولو كان لصا يخطفها فمتى اعترضت سيارة على هوية السائق. وبتعبير مالك عن هذا الكائن الاجتماعي:( ثم يبدأ تاريخ الانحطاط بانسان (مابعد الموحدين) ففي عهد ابن خلدون استحالت القيروان قرية مغمورة بعد أن كانت في عهد الأغالبة قبة الملك وقمة الابهة والعاصمة الكبرى التي يقطنها مليون من السكان، ولم يكن حظ بغداد وسمرقند خيراً من ذلك؛ لقد كانت أعراض الانهيار العام تشير الى نقطة الانكسار في المنحنى البياني). تروي لنا السيرة والتاريخ واقعتان على التشكل الصحي للمجتمع أو الانحراف المرضي. فأما الأول فهو موقف أحد الصحابة في معركة أحد وهو يفارق الحياة قائلاً: لاعذر لكم إن خُلِص الى رسول الله وفيكم عين تطرف. وأما الثاني فهو عقيل ابن أبي طالب يواجه مصادرة الحياة الراشدية على يد البيت الأموي :(إن صلاتي خلف علي أقوم لديني وإن معاشي مع معاوية أقوم لحياتي) فالتاريخ ينقل لنا هنا مأساة انفكاك الضمير عن الواقع. في الوقت الذي كان اكيل نموذج يندمج فيه الضمير مع المثل الأعلى والحياة (إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين). إن حادثة السيرة تروي أقصى مايمكن ان تفعله التربية بالانسان، والمجتمع يمكن أن يحدد بين الصحة والمرض بموجب مؤشرين: إنتاج (النموذج الانساني) و(الكمية الحرجة) من هذه الكتلة كما في أي تغير نوعي في أي وسط، فالقنبلة النووية لم تنفجر الا بكتلة حرجة، كما أن تغير الماء النوعي يتم وفق الدرجة الحرجة سواء في التجمد أو التبخر، وهذا ينطبق على اندلاع الثورات في المجتمع عندنا تصل الى الوضع الحرج بين سوء الأوضاع من جهة والوعي الجماهيري من طرف مقابل. وهناك ثلاث مستويات يمكن ان يتشكل وفقها (الانسان الاجتماعي) ففي الأول يبرز انسان مستلب الارادة والثاني محرر الارادة والثالث ايجابي الارادة. فأما الأول فممسوخ الآدمية أقرب الى القردة والخنازير يفعل مايوحي اليه في مجتمع متدني الفعالية يعبد سادته وكبراءه يعيش حالة وثنية سياسية بأصنام وصور مشرعة. وهو ماشبهناه بشكل القلم أو البوق أو البندقية، فلايرد القلم ماتخطه اليد من الموافقة بنعم. أو بوق يردد رجيع الصوت بدون مناقشة. أو يقوم بالجريمة بأكبر حجم لإن الأوامر جاءت هكذا. إن انسان مابعد الموحدين مستعد أن يهدم الكعبة لو أمر بذلك. ولربما بكى وهو يفعلها. هذا النموذج الممسوخ يمثل الطبيعة في ظاهرة (القصور الذاتي) فالسقوط محتم لكل الأشياء باتجاه الأسفل. أما الصعود فيحتاج الى طاقة وهنا تفعل التربية فعلها فترتفع بالانسان باتجاه المثل الأعلى. يقول بن نبي :(وهنا لانواجه تغيراً في النظام السياسي بل إن التغير يصيب الانسان ذاته الذي فقد همته المحضرة فأعجزه فقدها عن التمثل والابداع). ويطرح عالم النفس البريطاني (هادفيلد) في كتابه (التحليل النفسي للخلق) هذا السؤال الحرج: ماهو المنبه المناسب لتنشيط الارادة؟ ويجيب أن كل حاسة لها مثيراتها، وهكذا فالفوتونات تحرض حاسة البصر، والذبذبات الصوتية تحرض حاسة السمع، والجزيئات الكيمياوية تحرض حاسة الشم. ولكن مايحرض الارادة هو المثل الأعلى. ويرى المؤرخ البريطاني (توينبي) أن الارادة الجماعية تحرض عند بروز التحدي التاريخي في وجه جماعة اختارت العمل المشترك، وهو ماتفعله التربية بالقفز بالارادة الانسانية الى فرق جديد في الطاقة فتتحرر وايؤدي الأعمال في صورة مواطن واعي مشارك مسؤول، فيفعل مايراه صحيحاً ويمتنع عن المعصية. وهكذا يظهر الى سطح المجتمع انسان جديد (محرر الارادة) ليس عصا للضرب بكل يد. أو طبل جاهز للقرع بكل الأنغام والرقصات. أو مسدس جاهز الزناد لاعدام ولو أبيه. إن القرآن قرن بين ثلاث مظاهر للمسخ في اتجاه العبودية فذكر (القردة والخنازير وعبد الطاغوت) ويظن البعض أن المسخ كان بيولوجياً وهو ثقافي كما نرى. إن أول مانزل من القرآن كان سورة العلق وهي أكدت ثلاث معاني مفصلية: الأول تأكيد الكرامة بالقراءة (اقرأ وربك الكرم) من خلال تغيير محتوى الوعي بالمعلومة المكتوبة بالقلم علم الانسان مالم يعلم. والثاني معالجة أشد مشاكل المجتمع خبثاً واستعصاءً وهو الطغيان وأنه قابلية مشكلة في جبلة كل منا اذا منح السلطة بدون ضوابط. ونحن نعرف أن سلطة قليلة تعني فسادا قليلاً وسلطة مطلقة تعني فسادا مطلقا. والثالث: وصفة بسيطة للتخلص من الطغيان وهو (عدم التعاون) ورفض الطاعة لإن الحساب في الآخرة فردي ويجب أن يفكر الانسان باستقلال ويتصرف بارادة وهو مسؤول عن أعماله ولو كانت مثقال ذرة من خردل. والاقتراب من الله في النهاية لاتتم بغير سجود فعلي ولاسجود الا برفض الطاعة (كلا لاتطعه واسجد واقترب). في انتخابات أي بلد عربي لو جلس الناس بكل بساطة في بيوتهم ورفضوا النزول ماالذي سيحصل لهم؟؟ إن الناس لاتقرأ القرآن عما فعل فرعون بالجماهير( واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم) إن العقل معتقل وإن المثقف مقطوع اللسان. وإن مواطناً تقدم له بطاقة مخير فيها بين (نعم) و(لا) كحق دستوري ويشعر أنه مجبر على مخالفة ضميره لمواطن مسحور. ان السحر أعيد أحياءه بعد موت هاروت وماروت بأربعة آلاف سنة. يقول مالك بن نبي عن (انسان مابعد الموحدين) أن:( نفسه المريضة تخلقت في جو يشيع فيه الافلاس الخلقي والاجتماعي والفلسفي والسياسي). إن القرآن يبني فلسفته ليس على قتل الباطل، أو التآمر على النظام، ولا اشباع القلب بكراهية الحاكم او محاولة اغتياله فكلها اختلاطات مربكة لاتزيد المرض الا سوءً ولاحل المشكلة الا بالابتعاد عن كل حل. ونعود الى فكرة النماذج فالأول هو الانسان العربي الحالي الذي طلق ارادته ثلاثاً في بينونة كبرى وهناك من يفكر عنه بالوكالة قد لبس حلة القاصرين. والثاني هو من تحررت ارادته من العبودية فرفض الطاعة. أما الثالث فهو الذي يقول قبل أن تهدموا الكعبة اقتلوني فلن أرى او اسمح لما يحدث. إن الجيوش والشعوب العربية كلها تقاد الى الكوارث من خطامها لأنها في حالة خدر لذيذ مغيبة الوعي عن التاريخ خارج العصر يفعل بها الاوصياء مايشاؤون. إن شحن الارادة من السلبية المطلقة الى الايجابية المطلقة هو محصل تيار الكتروني عارم من الارادة بدفعها باتجاه المثل الأعلى كما يفعل الليزر بتجميع حزم الضوء باتجاه نقطة واحدة حارقة. يروي المؤرخ ديورانت أن (كوبرنيكوس) اكتحلت عيناه بكتابه عن الأجرام السماوية قبل موته بساعة. ويبقى السؤال لماذا كان اكتشاف كوبرنيكوس انقلابيا الى هذا الحد وهي لاتزيد عن شرح من يدور حول من؟ والجواب في ثلاثة زوايا: زلزلة أشد الأمور وثوقاً. ويجب أعادة النظر في مفاصل أساسيات التفكير. وأن الأيمان يجب أن يحرر من الدوغمائية. فالايمان هو تقليب النظر في السموات والأرض آيات لاولي الألباب، وأن الكفر هو إغلاق منافذ الفهم وتكميم الأفواه عن التعبير وأن الكافرين لهم قلوب لايفقهون بها ولهم أعين لايبصرون بها. ويفيدنا هذا الأمر اليوم في أضاءة ثلاث حقائق: إن الشعوب هي التي تختار أصفادها فهي الى الاذقان فهم مقمحون. وأن الحكام لايزيدون عن كواكب انفصلت من جرم الشمس فهي تدور حول الأمة، وأن الحاكم على دين الأمة وليس العكس. وأن الكسوف الاجتماعي يتم عندما تكف ارادة الفرد عن التشكل فيبهت كل شعاع وتنضب كل طاقة ويدخل المجتمع ليل التاريخ. يقول بن نبي: (وطالما ظل مجتمعنا عاجزا عن تصفية هذه الوراثة السلبية التي أسقطته منذ ستة قرون فإن سعيه الى توازن جديد سيكون باطلاً عديم الجدوى) وما يحتاج المجتمع بالدرجة الأولى هي العلوم الأخلاقية والنفسية، أما العلوم المادية فقد تكون على حد تعبيره: (خطراً في مجتمع مازال يجهلون فيه حقيقة أنفسهم ومعرفة انسان الحضارة أشق كثيرا من صنع محرك أو ترويض قرد على استخدام ربطة عنق

  5. #5
    الصورة الرمزية حسين عبدالغني شاعر
    تاريخ التسجيل : Sep 2008
    العمر : 37
    المشاركات : 300
    المواضيع : 49
    الردود : 300
    المعدل اليومي : 0.05

    افتراضي

    عزيز الفاضل خليل حلاوجي .... دمتَ نبراسا ً منيرا ً..
    لقد أمتعتني قراءتي للمقالِ ، ولعلها واستني قليلا إذ إن هناك من المسلمين من يعي حقيقة الأمر الإسلامي كما هي .. ،
    لسنين وأنا ألعنُ نظرات الناس المنتمية لقدرياتٍ تشبه أو تطابق ما قرأته في الأعلى ، وكم كنت أتمنى أن ينتقدها أحد ويضعُ الناس أمام مرآةٍ صادقة ولو قليلا .. ،
    لدي تحفظ ٌ ولكني أقولُ .. - بخصوص قدرية البشارات - ما قيمة هذه البشارات ، هل قيمتها أن تشجع المسلمين وتعطيهم الأمل في أوقات الشدة فقط ؟؟
    في حين أن كل عاقل بالغ أصبح يدعو ويعلم ويؤمن أن لا يأس ما حياة (...) ، إنني أرى أن التعلق ببشائر - أي بشائر - ولو لمجرد الإيمان بها يندرج تحت قدرية البشارات ( الغيبية ) . ..
    أما آن الأوان أن نعلم أن قدرنا أن نكون في ذيل القافلة ،ونعلم أيضا أننا قادرون على تغيير قدرنا بالعمل والعدل والإدارة ....
    هذا لا يعني أنني لا أوافقك عزيزي الرأي .. بل إنني أحسد نفسي على قراءة مثل هذا المقال الهادف .. وأتمنى أن نتحرر أكثر فأكثر من غيبياتنا المعتمة ..

    احترامي
    حسين الجزار
    أخسرنا الحرب يا أبتي ، بلى يا بنيّ ، والأرضَ والبئر والبرتقالْ
    أبتي .. أليسَ غريباً علينا الهروب ؟ بلى يا بني .. والفقرُ والجوعُ والإحتلالْ ،


  6. #6
    الصورة الرمزية خليل حلاوجي مفكر أديب
    تاريخ التسجيل : Jul 2005
    الدولة : نبض الكون
    العمر : 57
    المشاركات : 12,545
    المواضيع : 378
    الردود : 12545
    المعدل اليومي : 1.83

    افتراضي

    الأستاذ :حسين الجزار


    مرورك معطر بالوفاء .
    بالغ تقديري واحترامي

  7. #7
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.70

    افتراضي

    كم من السنوات مضى على هذا المقال المنقول في 2007 لنقف اليوم في 2014 نقرأه كأنه ابن الساعة، في أمة ما زالت تحتكم لذات القدريات السلبية المضيعة لفرصها بالتقدم، وأين يقف المثقفون من هذه القدريات التي أزعم أنهم على رأس المحتكمين لها كلّ ضمن تيار مؤمن بما تقول يرسم منهجه ومساراته وفكره على أساس منها

    يزعم المتفائلون أن الأمة تقف في مكانها منذ قرون، وأزعم أننا نخطو للوراء وتصرّ بوصلتنا على خداعنا ونؤمن بها

    نقل يشهد لك بالوعي
    لا حرمك البهاء

    تحاياي
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها