لم يكن جده ولا أبوه من قبله في حاجة إلى حملة بهذه القوة وبكل هذه الأموال الطائلة، فهذا المنصب تتوارثه العائلة أبا عن جد بأقل الجهود، إذ غالبا لا يجدون منافسا، وإن وُجد سرعان ما يندحر.
غير أن الأحوال تغيرت اليوم وبدا أن المنافسة أقوى مما توقعه "فوزي" و أبوه "الحاج الهاشمي" فالمنافس ليس من الطينة المعروفة: ابن شيخ أو مقدم أو رجل ثري يطمح إلى شرف الرئاسة لتثبيت قدميه وشرعنة امتيازاته.
ياسر :
شاب متعلم، مثقف، أنهى دراسته الجامعية منذ سنتين، ابن أسرة فقيرة ، إلى الأمس القريب لا يقام لها أي حساب غير أنها دوما كانت تحظى باحترام الجميع. أبوه عامل صغير يعيل أسرته من عرق جبينه ،و أغلى ما يملكون هو تلك السمعة الطيبة ؛ كنز الفقراء، حتى إن شباب الحي المتسكعين لم يكونوا أبدا يتجرؤون على أخوات ياسر، يكفي أن يحددوا هوية إحداهن ليحث أحدهم الآخر على وجوب تفادي الغمز أو اللمز أو أي حركة تفيد التغزل أو التحرش..
ياسر فاجأ الجميع اليوم بإعلان ترشحه للانتخابات. إذن فالمنافس غير عادي إنه لم يختر ترشحه بل إن مجموعة من سكان الحي هم من اختاره وأصروا على ترشحه لأن الضرورة تفرض ذلك لإنهاء توالي السنوات العجاف اجتماعيا واقتصاديا .
فوزي ومدبرو حملته الآن في حيرة من أمرهم. كيف يمكنهم مواجهة هذا الشاب الطموح وخلفه العديد من سكان الحي" أصحاب المبادئ" كما يسمونهم بكثير من التهكم. اقترح أحد الأتباع الثائرين ممن لم يزل دمه لم يُصَف بعد من عقلية الجاهلية السياسية تصفية ياسر أو اختطافه لإنهاء الأمر .. أمر عارضه الحكماء، خاصة الحاج الهاشمي الذي أكد لهم فوز" فوزي" مستصغرا هذه الضجة التي أثارها ترشح ياسر لأنه لا يستحق كل هذه الزوبعة على اعتبار أن المال يصنع كل شيء. وكم هزم ممن هم أرفع شأنا من هذا الفتى ياسر.
أما فوزي ففي دواخله حكايات كثيرة خلاصتها حقد دفين منذ الطفولة على هذا الفقير ابن الفقير سليل الجوع والعراء منذ الطفولة. لماذا كان متفوقا في البداية ولماذا يحظى بحب وتقدير معلميه؟
وعندما صار يافعا غدا زير نساء الحي. فوزي وأترابه يعرفون جيدا أن أغلب فتيات الحي يتحدثن عن فوزي بكثير من الإعجاب، لم لا وهو الشاب النجيب الوسيم المفتول العضلات حاز كل الصفات. ومن حسن حظهم أنه يفتقر إلى الثياب الفاخرة وإلا بدا كأحد نجوم هوليود.
***
دخلت أسرة الحاج الهاشمي في حملة غير عادية، والحقيقة الأكيدة أنهم أنفقوا مالا جما لم يسبق لهم أن بذروا مثله لإقناع سكان الحي بالتصويت لصالحهم، ذبائح هنا.. وولائم هناك.. وأموال توزع هنالك..
يوم الاقتراع.
أقبل الناس بكثافة إلى مكتب التصويت. فهذه معركة حاسمة بين المال والنفوذ والتاريخ وبين الفقر والثقافة والسمعة الطيبة...
حدث عجيب.
دخل فوزي إلى المعزل لإضافة صوته إلى أصوات مؤيديه، بيد أنه تأخر كثيرا وظل واقفا في المعزل، انتظر المسؤول عن المعزل طويلا.. فتح فاه ليناديه لكنه تأنى.. انتظر من جديد ثم خاطبه بلهجة فيها كثير من الاحترام والتقدير ملتمسا منه الإسراع. غير أن فوزي لا يزال حائرا في أمره، هل يصوت لصالح فوزي وهو أدرى بنفسه أم يصوت لصالح غريمه ياسر زميل الدراسة ورفيق الدرب؟ فكر وقدر ثم فكر وقدر ثم استقر على قرار التصويت لصالح الكفْْْء والأجدر بأن يمثل السكان، ياسر طبعا.
أخيرا خرج من المعزل ، رمى الظرف في الصندوق اقترب منه المسؤول مستفسرا
عن حاله و سبب التأخر ،إلا أن فوزي طمأنه بأن الأمور بخير.. فقط كان يفكر في المرشح الذي سيصوت لصالحه . شعر الحاضرون بدوار ونظر بعضهم إلى الآخر محركا شفته السفلى حركة تدل على التعجب والاستغراب ..وانعقدت ألسنتهم.
ليلة الاقتراع.
كثر الضجيج واللغط خارج المكاتب بينما عكف المشرفون على العد وفرز الأصوات ليخرجوا في الساعات المتأخرة من الليل بنتيجة التصويت لتنطلق الاحتفالات ويخرج سكان الحي يجوبون الشوارع والدروب يحيون فوزي و يرددون اسمه ويهنئونه بالفوز.