رآه صدفة يمشي وهو يحدث نفسه ، لم يعرفه من النظرة الأولى ، ولكن عندما دقق النظر في تفاصيل وجهه عرفه ، فاقترب منه وسأله :
- أين كنت يا صديقي ، لم أرك منذ شهر مضى، حمدًا لله على سلامتك .
- الله يسلمك .
- أخبرني ماذا جرى لك ، يبدو منظرك وكأنك كنت تخوض حربًا ؟
- أرجوك دعني الآن ، سأخبرك فيما بعد .
- لا بل الآن أخبرني ، منذ متى كنت تخفي عني أخبارك ؟
- ماذا أقول لك ، لقد خرجت للتو من مستشفى المجانين .
- ماذا ؟؟
- نعم ، والحمد لله أن الأمور انتهت على خير ، رغم أنني أصبحت مجنون بأوراق رسمية .
- يا رجل قتلني الفضول ، قل لي ، لماذا دخلت المستشفى ما الذي جرى ؟
- صدقني لا أعرف كيف أشرح لك ما حصل معي ؟
- اهدأ قليلاً و قل لي ما الذي حصل ؟
- منذ شهر تقريبًا احتجت لبعض النقود ، فقررت أن أبيع بعض القطع النحاسية التي كان يحتفظ بها جدي في غرفته التي على السطح، وبينما كنتُ أتفقد تلك القطع وجدت فانوسًا ، وعندما حاولت أن أزيح عنه الغبار فوجئت بدخان كثيف يخرج منه ، ثم تشكل من هذا الدخان شيء غريب لم أره في حياتي ...
- ويلك ماذا تقول ؟
- مثلما سمعت !
- وما هو هذا الشيء ؟
- لا أدري ؛ فهو ليس برجل ، ربما يكون شيطانًا أو جنيًا ، لا أدري ، فأنا لم أرَ هذا ولا ذاك ، لذلك لا أستطيع أن أحدد بالضبط ما هو .
- و ماذا حصل بعد ذلك ؟
- قال لي : لديك ساعة واحدة تطلب مني فيها طلبًا واحدًا ، وسألبيه لك مهما كان هذا الطلب ، وفي المقابل سأطلب منك طلبًا وستلبيه بدورك ، وإذا تأخرت عن الموعد فسأعود من حيث أتيت .
- ثم ماذا ؟
- لقد كدت أن أطير من الفرحة ، لم أصدق نفسي ، ظننت أني أحلم !!!
- و ماذا طلبت منه ؟
- لم أعرف ماذا أطلب على وجه التحديد ، لقد تزاحمت الأفكار في رأسي ، فمع هذا الجفاف والقحط الذي نعيشه لم أعرف ماذا أطلب ، لقد بعثرت الدهشة أفكاري ، ثم فكرت مليًا و قلت له أريد منك أن .. ولكنه قاطعني قائلاً أنه هو من سيطلب أولاً وبعد أن أحقق له طلبه سيلبي لي طلبي ، فسألته لماذا لا أطلب أنا أولاً ؟
- وماذا قال لك؟
- قال لي بل أنا سأطلب أولاً ، فأنتم بنو البشر نادرًا ما توفون بعهودكم ، وما أن تحصلوا على مرادكم حتى تنسون وعودكم ، ولطالما كنتم تخونون العهود وتنقضون المواثيق ، وتأكلون بعضكم بعضًا ، وبصراحة فأنا لا أثق بكم ، ولقد كان آخر عهدي بكم منذ عقود ولم أرى أي تغيير طرأ عليكم ، ولو لا أنني أخذت عهدًا على نفسي بتلبية رغبة كل من يوقظني لما مددت يد العون لأحد منكم .
- طيب أطلب أنتّ أولاً ، ماذا تريد ؟
- أريد منك أن تحضر لي طعامًا فأنا لم آكل منذ سنيين ؟
- وما هو نوع الطعام الذي تريده .
- أي شيء ؛ لا يهم ماذا تحضر ، المهم أن يكون طعامًا يروي عروقي ويعيد النبض في قلبي وروحي .
صمت قليلاً فقال له صديقه :
- وماذا بعد؟
- هرعت إلى المطبخ حيث كانت أمي تضع وعاء فيه طعام فأخذت الوعاء وأنا أجري مثل المجنون إلى سطح المنزل وأمي تصرخ عليّ وتصيح إلى أين تذهب أيها المجنون ، إخوتك لم يأكلوا منذ الصباح ، تعال هنا ، لكنني لم أنتبه لكلامها وتابعت طريقي ثم بدأت تدعو عليّ وتقول الله لا يسامحك ، الله يغضب عليك ، وأنا أركض ثمَّ ...
سكت قليلًا و لم يستطع أن يكمل ، فسأله :
- ثم ماذا ؟
-عندما كنت أركض لم أنتبه إلى خطواتي على السلم فوقعت على وجهي ووقع الوعاء وكل ما فيه على الأرض فكسر أنفي و رأيت أسناني تتدحرج على الدرج ، فنقلوني إلى المستشفى وأنا أصرخ بهم وأتوسل إليهم أن يتركوني وشأني لكنهم لم يفعلوا ، ثمّ وضعوني على النقالة لكنني هربت منهم فلحق بي كل من كان هناك ، و ركضت باتجاه السوق ...
قاطعة بدهشة :
- السوق ؟ لكن لماذا لم تذهب إلى بيتك ؟
- كنت أريد أن أحضر طعامًا لهذا الشيء ، فبعد أن سقط مني الوعاء لم يبقى في البيت شيء يؤكل ، وهكذا تابعت طريقي حتى وجدت أحد المطاعم ، فرأيت بعض الدجاج المشوي فأخذت ما تيسر لي حمله وبعض الخبز وركضت باتجاه البيت فلحق بي صاحب المطعم مع جملة الذين يركضون ورائي ، وكلما ركضت كان الجمع الذي يلحق بي يكبر ،وبدا الأمر مثل كرة ثلج تتدحرج من ورائي ، تكبر وتكبر ، وكانوا جميعًا يصرخون بصوت واحد ، فتارة يقولون حرامي، وتارة أخرى مجنون أمسكوا به ..
- ؟؟؟ ؟
- وصلت إلى البيت وصعدت إلى السطح ، كان الألم والتعب قد أخذ مني مأخذه ، والدم ينزف من فمي وأنفي يتدلى على وجهي ، فأعطيته الطعام ثم قال لي أطلب ما تريد ؟
- وماذا طلبت منه ؟
- طلبت منه أن يعيد لي أسناني وأنفي المكسور .
- وطبعًا لم يفعل ذلك ؟
- بل على العكس ، وفّى بوعده .
- ولكنني أرى أن أنفك مازال مكسورًا؟
- آه ، نسيت أن أخبرك أن صاحب المطعم كان أول من أمسك بي ، وفهمك كفاية يا صديقي !!