علماء الإسلام في مواجهة تحديـات العصر
لا خلاف بين أصحاب الرأي والنظر في أن الفضل الأعظم في بناء حضارات الأمم المتحضرة ، وصناعة أمجاد الشعوب المجيدة ، ينسب إلى علماء الأمة ورجال الفكر وصناع الرأي فيها ، قبل أن ينسب إلى رجال السياسة والاقتصاد ، فضلاً عن العامة والرعاع .
فالعلماء من أمتهم كمثل الرأس من الجسد, هم العقل المفكر، والدماغ المحرك.
تنظر العامة إليهم وتقتدي بهم ، ويفزع إليهم الملأ في الخطوب ، ويصدرون عن رأيهم إذا رأوا ، ويطيعون أمرهم إذا أمروا .
و كم ضحى العامة بأنفسهم وأوردوها موارد الموت، من أجل كلمة سمعوها من عالم
وكم قدموا أرواحهم وأولادهم في سبيل فكرة أوحى بها العلماء إليهم .
فعلماء الأمة هم المهندسون المخططون، وعامتها هم البناءون المشيدون.
وما من حركة سياسية، ولا ثورة شعبية، ولا انقلاب عسكري، ولا نهضة اقتصادية، ولا صحوة اجتماعية، إلا ومن ورائها مفكر درس وخطط، ثم تكلم ووجه، فكانت الأمم تنفذ أفكاره، وتحول أقواله إلى أفعال. أن ينسب إلى رجال السياسة والاقتصاد ، فضلاً عنه .
وما كانت الجيوش والشعوب والحكومات في كل عصر إلا أدوات تنفذ أفكار المفكرين ، ظهر ذلك للعيان أم بقي مستتراً وراء الكواليس .
وهذه قاعدة تستوي فيها أمم الإيمان والكفر ، وتستوي فيها مذاهب الحق والباطل .
و كل مطّلع يعلم أن لينين، الذي غير وجه العالم بثورته، وأسس أكبر دولة على وجه الأرض، ما كان إلا أداة منفذة لما رسمته نظرية ماركس.
والثورة الفرنسية التي غيرت مسار التاريخ الأوروبي ، وقضت على الملكية ، وأقامت الجمهورية ، ما كانت إلا إيقاداً لأفكار فولتير .
والصهيونية السياسية ما كانت إلا أفكاراً دونت في البروتوكولات .
وابحث بنفسك عن جذور كل حركة تغيير سياسي ، أو نهضة اجتماعية ، أو ثورة عسكرية قامت بها أمة من الأمم ، أو فئة من فئات الشعوب ، تجد أن البناة الحقيقيين لأمجاد الأمم هم علماؤها ومفكروها .
لا عجب إذاً أن نرى شعوب الأرض تحفظ لأولئك الخاصة مكانتهم، وتخلد ذكرهم، وتنسب أمجادها إليهم.
ولا عجب في أن يضع الإسلام هؤلاء الرجال في المقام الأرفع ، وأن بخصهم بخصائص لا يشاركهم فيها - بل ولا يدانيهم - غيرهم من أفراد الناس ، ولا يطمح بالوصول إلى مقامهم أحد ، حتى يسلك سلكهم ، وينتظم في عقدهم ، ليحوز الشرف الذي حازوا ، وينال الفضل الذي نالوا .
نزل كلام الله بفضلهم فجاء فيه : ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) .
وبيَّن أنهم في عامة المؤمنين خواص فقال سبحانه : ( يرفعِ الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) .
وجعل مهمة بيان الأمثال الإلهية مهمتهم ، لأنهم وحدهم من يفهمها ، فقال عز من قائل :( وتلك الأمثالُ نضربها للناس وما يعقِلُها إلا العالِمون ).
و أظهر النبي شرفهم، فبين أنه مستمد من شرف الأنبياء، فقال: " وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر ".
وبين أن مهمة إرشاد الأمة ، وبيان الحقائق ، وتنقيح العلم ، وتنقية الدين مما يمكن أن يدخل عليه مما ليس منه ، مسؤوليتهم ورسالتهم فقال : " يرث هذا العلمَ من كل خلف عدولُه ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وتأويل الجاهلين ، وانتحال المبطلين " .
لذا فقد حفظ المسلمون في تاريخهم مآثر علمائهم وخلدوها كما لم يحفظوا ذكر ملوكهم وأمرائهم.
فمن من المسلمين لا يعلم أخبار أبي حنيفة ومالك، والشافعي وأحمد، ومن منهم لم يسمع عن ابن كثير ، وابن القيم ، والبخاري ، ومسلم .
و لكن في مقابل ما أعطي العلماء من المقام الكريم والتشريف العظيم، فإنهم يتحملون التكليف الجسيم.
و كما ينسب إليهم معظم الفضل في رفعة الأمة أيام رفعتها، فإنهم يتحملون معظم اللوم في تقهقر الأمة واضمحلال حالها.
فقعود حال أمة من الأمم، يدل على قعود علمائها عن واجبهم، وتقصيرهم في أداء مهمتهم.
ولقد باتت أصابع الاتهام توجه إلى هؤلاء القوم الكرام من هنا وهناك.
وحاول المخلصون الدفاع عن العلماء وتبرئة ساحتهم من كل ما ينسب إليهم ويقال عنهم ، ولكن الأحوال الملموسة كانت أقوى من حججهم ، والوقائع المحسوسة كانت أصدق من تأويلاتهم ، فلم يستطيعوا أن يأتوا بدفاع مقنع يبرئ العلماء مما يوجه إليهم من تهم ، فغدا أصحاب النظر في الأمة ، ممن أدركوا تقصير العلماء في مسؤولياتهم ، ولم يستطيعوا له إنكاراً ، ولم يجدوا له اعتذاراً ، فريقين اثنين .
فمنهم من زهد في العلماء واعتزلهم، وهجرهم ورغب عنهم، وما عاد يوجه إليهم نقداً أو عتاباً، وكأنه يقول لنفسه: أناس مفقود منهم الأمل، فلنبحث عن الحل عند غيرهم، ولنسعَ في التغيير بمعزل عنهم.
وآخرون علموا أن صلاح الأمة - إن كتب لها صلاح - لن يكون إلا عن طريق هؤلاء الرجال الذين هم أركانها وأساطينها ، وبهم - لا بغيرهم - ينار طريق عزتها وسؤددها ، وخلفهم - لا خلف إمام سواهم - تمشي الأمة نحو مجدها ورفعتها ، فعتبوا وانتقدوا ، وربما أفرطوا - بدافع من غيرة تملأ قلوبهم - في نقدهم ، فجرحوا ولذعوا .فأين العلماء من ذلك كله ؟؟
العلماء في هذه اللجة المضطربة ، والمحنة العصيبة - والحكم للغالب ولا عبرة بالخواص - معرضون عن سماع ما يقال لهم ، وما يقال فيهم .
لم يرضخوا لحقيقة أنهم يتحملون النصيب الأكبر من المسؤولية عن أحوال الأمة المزرية ، ولم يسلموا بوجود مشكلة تستوجب منهم العمل على حلها .
وبما أنهم أبواق الأمة وخطباؤها ، فإن صوتهم هو المسموع ، فهم أصحاب المنابر والأقلام ، يعظون ويخطبون ، ويصنفون ويكتبون ، فتراهم في ذلك كله يبعدون التهمة عن أنفسهم ، وينحون باللائمة تارة على الساسة ، وأخرى على رجال الإعلام ، وثالثة على المجتمع بأسره ، ليبقوا هم في أبراج عاجية لا تطالها تهمة ، ولا ترقى إليها إدانة .
يحاكمون الإنسانية جمعاء ، ويحملونها أكواماً من التهم ، ويحكمون بهلاكها جملة ، ليكونوا وحدهم الناجين الفائزين .
و لعل في هذا الكلام ما فيه من القسوة، ولكن ما أجمل النقد الذاتي البناء عندما يكون وسيلة للإصلاح.
وما أعقل المرء عندما يقبل الحقيقة ولو ثقلت، ويسلم بالواقع مهما كان مريراً، و يعترف بالتقصير في سبيل تداركه .
وما أحكم المرء الذي يحاكم واقعه ليصلح مستقبله، ويدين أخطاء ذاته ليصل بها إلى الصواب المنشود ، ويمتلك الشجاعة التي تحمله على إعلان تغيير مسار سار فيه مدة من الزمن وسار الناس خلفه ، ثم تبين له خطأ اتجاهه .
ولا ينبغي للعلماء - وهم من هم في وفور العقل وسداد الرأي - أن يصيروا كالذي يضع يده على الجرح فيتجاهل وجوده، ليهرب من مشقة علاجه وقسوة جراحته.
و حتى نزداد يقيناً في وجود مشكلة ما، لا بد من عرض مظاهر هذه المشكلة وأعراضها أولاً، فإذا عرفت الأعراض سهل وضع حلول ناجعة تخرجنا من هذا الحال، عسى نستنقذ الأمة، بإصلاح الأئمة.
منقول