عاجل.. 3( الأخيرة)
- أو لم يكفِهِ ذلك كلُّهُ ليستَفِقْ و يدَعْ تلكَ القَنَوات جانِباً ويرجِعُ إلينا بروحهِ بعد أن كان حاضِراً بيْنَنا بدَناً و ذِهنُهُ شارِدٌ في الأخبارِ سابِحٌ بين الفضائيّات؟
كان َ ذلكَ ما حدّثتْ بهِ زوجتُهُ نفسَها ..وهي لم تستطعْ أن تخفي سَعادتها المكنونة بعد ما حصل مع زوجها بالمقهى..ولمْ يكُنْ في ذلك شماتةً به أو تشفّياً منه ..وأنّى لها ذلك و هما رفيقا دربٍ استهلاّه قبلَ خمس عشرةَ سنةٍ في شقّتهم ذات الغرفتين وانتهتْ في ذات المكان حيث هم الآن ..! غير أنها رأتْ في ذلك الموقف على مشقّته عليه خلاصاً لَهُ مما ألمّ به من انشغالٍ عنها وانصرافٍ عن شؤون البيت و متطلباته بسبب تسلّط الفضائيّات عليه أو قلْ تسلّطُه عليها..
لم يرُقْ لها أن تراه جاحظاً عينيه في شاشة التلفاز..ولم يكن همّها في المقام الأوّلِ ما يسمع بلْ من يرى..كانت تتلوّى غيرةً من مقدّمة نشرة الأخبار فهي عاجزةٌ مهما صنعتْ عن مُجاراتها..فكانتْ عيناها تتنقّلان ما بين حَركاتِ تلك المذيعة وَما بين وجْهِ زوجِها تقرأُ فيهِ علامات التعجّب حيناً و الإعجاب حيناً آخر..ولو كان باستطاعتها ان تجعلَ عيناً هنا وعينا ً هناك لفعَلتْ و لكنّها سنّة الله في خلقه.
أخذت تحرّضُه و تحثّهُ أنْ يطْرحَ الأخبارَ و الفضائيّات جانباً، فقالت له : دعك من هذا الشأن ونمْ قرير العين واتركِ الأمرَ لاهلهِ وأنت لست أهلاً له..
أمّا صاحبنا فقدْ بدأت تنقبضُ نفسُه و يضيقُ صدرُهُ بعدما رأى أنْ لا طائل ممّا هو فيه ..فلم يرَ من جُلِّ ما يسمعُهُ إلا نفخاً في الهواء لا يغني صاحبَهُ منْ جوع..ولكنْ لا يزال لديهِ همٌّ يؤرّقهُ وهو كيف له أنْ ينفكّ ممن يستفزونه بكلمةٍ هنا وسؤالٍ هناك..؟ فقرّرأن يتوجّه لصديقه البقّال وهو صاحبُ حظوةٍ عنده و كلمته- منْ بعدِ زوْجَتِهِ- مسموعةٌٌ لديه ،والبقّال- لمن لا يعرفه : صاحبُ فكرة الصحيفة البائتة بربع الثمنِ والتي كان يرسلُها إليه – متخمّرةً- اما الآن فلا صحيفة و لا خميرة!
...حذّره البقّال من" بني طيّة" وإليهم تنتسب " ديمقراطية" و بيروقراطية " فهم يخفرون الذمّة و لا يحفظون العهد..ونصحَه بأن يواجه من يستفزّه بعبارة من كلمتين فحَسبْ: " انا معتدل" وبذلك ينوءُ بنفسهِ عن اليمين و اليسارِ و التقدّم و الرّجعيّة و العلوّ و الانبطاح و غيرها من الاتجاهات! إستحسن صاحِبُنا الفكرةَ و راقتْ له العبارة و صار يروّض لسانهُ عليها حتّى استظهرها.
..مرّت أيام و هو على ذلك الحال يهتفُ من حينٍ لآخر :" انا معتدل..معتدل"، حتّى عادَ ذات يومٍ لبيته مقطّب الجبين .زائغَ العينين،وكان سهلاً على زوجتِهِ أن تقرأ في قسمات و جهه أَحاسيسه الدفينة..
- قل لي : ما بك ؟أظهرَتْ تلكَ العجوزُ مرّةً أخْرى أم هو" مرتضى" ؟
- لا هذا و لا تلك، كنتُ عند المزيّن فغلبتني غفلة ..ما إن إنتبهتُ من غفلتي إلاّ وهو يسألني عن مفرق شعري على اليمين أم على اليسار..فصرخت فيه : معتدل..معتدل!
مدّت كفّها لتتشابك مع كفّهِ بعد انْ أطلقا ضحكتين معاً متحدّين شاشةً سوداء صامتةً كانتْ أمامهم..
- إنتهى-