القط الرئيس
وصلته دعوةٌ لحضورِ حفلة يقيمها حزب القطِ الوطني استعدادا لدخول الإنتخابات القادمة.
قرأها وقال في زهوه وخيلاءه المفرطين: سأذهب بمفردي، هكذا يفعل المهمون أمثالي؛ يخفون تحركاتهم ليدرئوا عن أنفسهم أي حادث طارئ، ثم من تراه يستحق معيتي، وهل يشبهني أحد؟ ومن تراه مثلي يحمل تاريخاً من العمل النضالي في خدمة الوطن، وله أمٌ وأبٌ مثل أمي وأبي، امتلأ غروراً دفعهُ وسار به حتى المكان والموعد المحددين.
هناك.. كان في استقباله جمع من القطط السمينة ببدلاتهم الأنيقة يصطفون على مدخل قصرٍ فاره له باب مرتفع يؤدي اليه سلمٌ من المرمر المزدان بالزهور الملونة، وكلمات الترحيب تمطره من كلا الجانبين، تفضل سيدي القط المبجل، أهلا بك أيها المناضل.
حفاوة وترحيب لم يألفها من قبل، فكل من كان حوله كان يراه قطاً عادياً مديرا في دائرة تحيطها الشبهات من كل مكان، لا ينماز عن غيره بشيء سوى صحيفة أعماله المرصعة بعلائم الاستفهام والريبة، أما الآن فقد أختلف الأمر فقد شعر بأنه أكبر مما كان وصدّقَ إنه كان مناضلاً.
حين دخل صالة القصر الكبرى استقبتله حسناوات القطط: تفضل أيها الأمير.
رافقته احداهنَّ الى نهاية الرواق، قطةٌ بلباس سهرةٍ يُظهرُ أكثرَ مما يُخفي، تفوحُ منها رائحة عطرٍ ماجن، سار خلفها وقد تموسقت خطواتها غنجا تداعب غرائز منفلتة تخفيها (كارزما) مصطنعة، صور الشبق تُنشِطُ ذاكرته المتخمة بليالي السمر في غرف الارشيف، أوصلته خطواتها حيث استقبله قط يرتدي زياً رسمياً، رحب به وأعطاه مظروفا مغلقا، أدخله في غرفة كبيرة، ثم أغلق الباب عليه وانصرف، جلس بمفرده فيها ، غرفة واسعة لها بابان الأول دخل منه، والثاني يقع أمامه في نهاية الغرفة، يبدو أنه يؤدي الى غرفة اخرى في الداخل، فتح المظروف وجد فيه مباركة تسلم كرسي وثير وفاخر قماشه من الحرير مشروطة بتنفيذ بعض البنود المدرجة، منها التزام الهدوء في احتفالات الحزب، وألتزام الصمت امام الزعماء والصغاء لهم ، والجد والاجتهاد لجمع أكبر عدد من الأتباع كي يحظى الحزب بالمنزلة العليا وينال أتباعه الرفعة، والرئاسة.
مرَّ الوقت ثقيلاً وافكاره تطوح به كمرجوحة تعبث بجسد طفل صغير، تناولته الأسئلة .. كيف يكسب الأتباع والأصوات، وكيف سيمنحهم الثقة به كي يتبعوه، كيف سيمحي من رؤسهم الاشاعات التي يتناقلونها بينهم عن فساده ولا مبالاته، حاصره الخوف والرجاء، لابد لي من طريقة التمس فيها تحقيق ذلك الأمر ولا أحسب طريقا أنجع من طريق والدي الذي ترأس به قومه عن طريق أغداق الأموال، فهو كما تقول أمي أقصر الطرق للحصول على الأمنيات.
عاد له هدوءه، فأرخى رأسه على حافة الأريكة وراح يقلب بصره حوله يجوب بنظراته أرجاء الغرفة، شاهد على الجدار لوحة لخيول تتسابق نحو نهاية مجهولة وكأنها تحكي عن مستقبله، كم هم النظراء المتسابقون في مضمار الحياة مخلفين ورائهم أجمل اللحظات طمعاً بمستقبل مجهول، وبجنبها لوحة زيتية لآنية من خزف جف رأسها، ونضب نداها، وقد شاخت الطحالب حول عجزها خِيلَ إليه أنها تحكي عن مسيرة حياته الماضية بكل ما فيها ترهات، في أعلى الحائط لوحة كبيرة لفتاة غجرية زال عنها الحياء، أعطت الناظرين ظهرها والتفتت برأسها نحوهم كأنها تنظر الى مفقود بينهم، تعتمرُ شالا طار نصفه في الفضاء، لم يجد مصداقاً تنطبق عليه أدق من حزبه الوطني، تلفت حوله مذعورا ثم كتم أفكاره كي لا تفضحه تعابير وجهه، ويذهب ضحية انحرافه الفكري.
ألتفت نحو خارطة كبيرة مزينة باطار ذهبي، تشبه خرائط كتاب الجغرافيا التي لم يفهم منها شيئاً، على الحائط المقابل صورة لهرٍ سمين يرتدي بدلة أنيقة بربطة عنق حمراء، تتدلى من صدريته سلسلة ذهبية تؤدي أغلب الظن الى ساعة تغفو في جيبه الكبير، وعلى رأسه قبعة سوداء، زادته غرورا وكبرياء، كم تمنى أن يصنع لنفسه صورة مثلها.
لحظات الصبر تمر بثقل الصخر، ولا أحد يكلمه، أو يدله لما دعي إليه، أو يجد طريقا يخرجه من سناريو الملل والرتابة هذا .
في الخارج أصوات تبدد لحظات الملل، ينزلق مزلاج الباب بهدوء وتُفتح الباب ليدخل الخدم والحشم وهم يحملون موائد الطعام الفاخرة تسبقها رائحتها الزكية وقد عصف بهدوءه، وعبثت في سكونه المصطنع، لكنه لم يتحرك من مكانه فالمقعد الحريري والوعد أعاد اليه اتزانه.
انفرج الباب الثاني دخل الجميع هناك وضعوا ماكان في أيدهم ثم خرجوا، لم يكلمه أي واحد منهم، أو يومي إليه بإشارة مفوهومة، لعلهم لم يروني هكذا قال في نفسه، أو لعلهم سيتذكروني بعد قليل.
ولكن الأمر بقي على حاله، ليس من بارقة أمل تلوح في أفق يومه الرتيب، ورائحة الشواء جذبته نحوها وحطمت جموده فحرتكه من مكانه فلم يفلح حلم الكرسي الحريري في كبح جماح لذتهِ وفضوله ، اقترب من تلك الباب تسلق الأريكة مدَّ جسده حتى وصل رأسه أمام خرم الباب، وأخذ يمعنُ النظر من خلاله.
ما أجمل ما وقعت عليه عيناه، مائدة عامرة بما لذ وطاب، سرح في ألوان الطعام الشهي، طارت به الأحلام لتخترق به جدار الواقع وتضعه على حافة مائدة زاخرة فاخرة.
سأتناول فخذ الدجاج أولا، لا بل تلك السمكة الكبيرة، لالا سأبدأ بلحم الظأن أولا؛ يبدو شهياً أكثر من غيره.
تدلى لسانه وسال لعابه فتهدل قوامه وزلت قدماه، سقط على رأسه، تبدد حلمه من جديد لملم شتاته، وعاد بلحظ البصر الى مكانه حين طرق سمعه صوت الباب وهي تفتح، دخل عليه قوم اخرون لا يشبهونه ولا لجنسه ينتمون، يحملون القراطيس في أيديهم ، مروا أمامه ودخلوا غرفة الطعام، قال في نفسه ليت لي ما لهم.
تدافعوا نحو الداخل وتركوا الباب مفتوحا فهو يرى ما يجري فيها ،ترجل عن كرسيه؛ ليرى المشهد بوضوح أكثر، وقف على الباب وقد تشابكت أيادي القوم على الشهي والطيب، ظل واقفا حتى انتهى الآكلون من طقوسهم، نظر اليهم وقد غادر ذلك الحسن وجه المائدة ، تسلل اليه الحزن وجفت قريحته عن المواء وحال دونها وعدٌ ووفاء، سالت دموعه صمتا وأطرق برأسه الى الأرض، وظن أنه خسر حلمه حتى ربت يد على كتفه، قطة حسناء سلمته مغلفٌ وجد فيه رزمة من النقود، ووجبة طعام فيها سمكةٌ مشوية، ورأس فجل أبيض، ونصف رأس بصل، ثم أشارت إليه بالانصراف، لقد تأجل الحفل سيدي الى يوم آخر.. سيتم اعلامك به لاحقا. ألتهم وجبته بسرعة ثم عاد أدراجه من حيث أتى مرورا بالصالةِ والباب الكبيرة والسلّم المرمري، فلم ير الققط الحسناوات ولا الققط السمان التي استقبلته وكأن أحداً لم يكن هنا.
سويعات تصرمت من بين يديه بسرعة كأنها الحلم، ولكن الحلم بعودتها ما زال يراود مخيلته، تفحص النقود، عزِمَ على شراء بدلة جديدة وربطة عنق حمراء، وسلسلة ذهبية تتدلى منها ساعة جيب نفيسة، عاد الى منزله وحيدا لا يقوى على رفع ذيله من شدة التعب، استلقى على سريره وغط في حلم جديد اختار له عنوانا جديدا ساعة الوسن؛ حلم السيد الرئيس، أو المهيب الركن.
محمد مشعل 4-4-2014