منعطف العُبور إلى الحاضروبين هذا المكان وذاك ،وبين هذا العالم وذاك ،تختلف الرؤى والأفكار، ويستمر آثارها على النفس والحياة ،وقد يرسو عليها الفكر ولو غاب عن طبيعتها وفحواها الترجيح السليم ،كي تصنف حسب تقديراتهم ضمن الإنتاجات الجادّة التي مثلت فيها نصوص غزيرة المعنى وثرَّة البَيَان،وفي معالم الأفكار التي جالت في خيالي، وتربعت على عرش الكيان ،استَرقْتُ جانبا من خلوتي ،بل حيزا كبيرا منها ، وسافرت في رحلة عبر الزمن، إلى عبقرية الماضي، وعلوِّ منزلة علمائه ،وجُلْت في معالم الخاطر وأفيائه التي تربع فيها الحنين والحب ،والود والأنس عرش الخلود، وسَبَحْتُ ضمن معالم القيم الدينية والكونية .
كلُّها أشياء أضحت حاضرة تلازمني ولا تفارقني أبدا ،وهي على ذات الحال منذ سنين خلت.
لم أكن أحس آنذاك، أن تلك الأيام والسنون زائلة ومنتهية ، و التي تليها ما هي إلا ومضات من الأمس البعيد ،أستنير على إيقاعها لمعايشة الحاضر بخطى متثاقلة ،يشملها الإنبهار و الإستغراب و الإغتراب ،هي تلك الأيام التي استَرَقَتْ على حين غفلة منا ،من براءة الطفولة ،وحيوية الشباب ،وذهبت بذلك الجمال الذي استكان لنا، ثم انحنى لنا لنمتطيه في كل لعبة من ألعابنا، في لعبة الأرجوحة ونحن صبية ،ولعبة الورق ونحن شبابا ، بل ولعبا أخرى، ما عدت أذكر أسماءها .
انمحى كل شيء ،وذهب مع اللعب واللهو، الذي زين أيامنا ونحن نلعب ونرتع ،فلا ننتبه إلى قطار الحياة الذي يعبر هذا الكون، يسري بين شرايين الحياة ،كما يسري الضوء بسرعته الخيالية ،نحو المجهول واللانهاية،وبين التفكير، ونتاج الفكر العميق الذي يقودني، ويقود أيامي الحالية ،ألقَيت نظرة إلى الوراء و أنا أنفض الغبار عن مذكراتي وأوراقي، على أمل أن أجد فيها ما يرتِّق كاهِلي الممزق ، ولحقت بما علق بها وبالذاكرة في زمن مضى ،أبحث عن شعاع الضوء الذي انبعث من مجسم حياتي آنذاك ، كانت كل مخطوطاتي وخربشات قلمي الأول ذي الحبر السائل ،على ذلك الرف ،في تلك الزاوية من غرفة مكتبي -هو عين الرّف الذي كنت قد سميته ذات ليلة:" رفّ الأيام الخوالي "- قرأت الأسماء والصفات، والأماكن والأحداث والأزمنة والأمكنة بصوت عال وأنا أتصفح تلك الأوراق التي جعلَها تعاقُب الأيام والسنون تميل إلى الصفرة، فغاصت أفكاري في الخائلية، وفيما كان يستهويني وكان لي ملاذا ، وفيما تهللت على رسله أساريري وكان لي بهجة، وما استنار به عقلي وفكري فكان نبراسا،و ما تراقص على إيقاع بوصلته كل كياني فكان لي مُوَجِّها.
فتحتُ مذكرة ثانية وثالثة، ثم رابعة ....... ، فغضبت لحالي ورميت بها كلها من نافذة تطل على بيت مهجور،ورحت أرتب على متن كل الرفوف كتبا أخرى تطل من شرفتها على الحاضر، من خلال ماض يخالف ما خطت يداي في مذكراتي ومقالاتي وأوراقي ،ماض مليء بالعطاء، يرسم سبل الحاضر والمستقبل وآفاقهما.