أزْرَارٌ وأشْرَارٌانتصَبَت منزوية في ذلك المكان ، بعض الخبز وقطع الحلوى أمامها ، لقد قررت أن تعتمد على نفسها في تأمين لقمة العيش ، حينما رحل زوجها عنها إلى الضفة الأخرى ، و أصبحت تصارع الضياع ،الذي يراود النساء عن أنفسهن في هذه الضفة الدنيا ،المليئة بالشفقة المغلفة بمكر ثلَّة من الرجال، ونزواتهم العابثة برونق الطاهرات من النساء، حين اختلط العطف بإرضاء غرور النفس .
بنظرة ملؤها رغبة في كسب الرهان والنجاح فيما تبنته لإثبات ذاتها ،لا أحد من المارّة طلب خبزا ولا حلوى في هذه الآن ، تنظر إلى المارة ، تدعو الله صادقة ، لترسم لنفسها بدعواتها عالما بعيدا عن شفقة يتبعها أذى .
- آه !
- هذا يبدو كأنه سيشتري .
- تبا !
- لقد مرّ سريعا من أمامي واتجه إلى ذلك الدكان ليشتري منه ما يريد .
- لا !!
- ذاك يحمل حليبا وعلبة قهوة في كيس شفاف، ربما يريد خبزا ، لا !
- إنه ينظر إلي ويتأملني ، هل أثرت شفقته ،أم يريد خبزا و بعض الحلوى ؟ لم يحدث شيء مما تهيأ لها ، قالت تخاطب نفسها :
- دعيك من كل هذا والرزق على الله .
على ذا الحال بقيت قابعة في مكانها ، تقاوم الدمع المنهمر ، ثم ترغم نفسها على الثبات والصبر لمواجهة حاضرها .
تقدم إليها رجل وقد شعَّت الكهولة من تلك الشعيرات المتفرقة على كروية رأسه ، ثم قال :
- خبزك لا شك لذيذ ، لكن من صنعته أروع ما رأيت هذا الصباح ، لم تنبس بكلمــة ، ثم زاد من جرأته قائلا: فعلا أنت مثيرة وفاتنة ، لم يتوقف عن نفث تلك الحمم المدمرة من فمه ، مرة أخرى لم تحاول أن تنبس ببنت شفة ،كانت قد وضعت له الخبز في كيس شفاف ،لحظة تعجب منها ، وقد تراجعت عن إعطائه الخبز ، قال لها :
- ماذا تفعلين ؟
- ردت : إنه ليس للبيع ،فانصرف .
الدموع تنهمر من عينيها ثانية ، أحست بالإهانة ، بدأت تسائل نفسها عن تاريخها ، عن سلوكاتها، عن كل حركاتها و سكاناتها، عن ماضيها وحاضــرها .
قالت وهي تخاطب نفسها :
- لا شيء يستدعي من هؤلاء أن يجعلوني أحس هذا الإحساس الغريب الذي علا سمائي بغتة .
تذكرت زوجها ، تذكرت ذلك الصمت الذي ساد حياته ، لا يشكو من قلة ذات اليد ،لا يأبه للصعاب من أجل أن يسرها كما كانت تسعى دوما لإسعاده ،ابتسمت لحظة دون أن تعي تغيرات تعبيرات ملامح وجهها ،حين تذكرت فرحه وهي تستقبله بابتسامتها العريضة المحتشمة ، دوما كانت متأكدة أنه فخور بها ،سعيد بمعانقة جمالها وسر جاذبيتها .
هي ذي تتفاجأ بطفل صغير يقبل عليها ، يطلب منها أن تعطيه خبزتين ، وأربع قطع من الحلوى ، اقترب منها ،همس في أذنها :
- عليك إغلاق أزرار قميصك ،فصدرك شبه عارٍ .
كان كلام الطفل كأنه رصاصة قاتلة، تزيد من رغبتها في اللحاق بزوجها إلى ضفته البرزخية التي تسمو في صمتها الأزلي ،وتسبح في بحر من دموع الأحياء .
- نظرت إلى صدرها ،لقد نسيت الأزرار مفتوحة ،بعدما وضعت حافظة النقود هناك ،حيث تضعه بعض النساء.
- يا ليتني ما وُلِدْت أنثى ، ولا كان من كل الأنثيات على هذه الأرض ما يثير رغبة الذكور الغرائزية ، فأرْغِمْتُ أنا وهُنَّ في الأزل لنحيا على هذه الأرض إناثا لذُكور .
أغلقت الأزرار والخجل يعلو محياها ،جاء زبون أول واشترى منها خبزا وحلوى ،وجاء الثاني وأخذ له بعض الحلوى ،و......... باعت كل بضاعتها، أخذت هاتفها ،نظرت من خلال برنامج مرآته إلى صدرها ،وإلى الأزرار المغلقة .
قالت :
- مني انطلق نداء الأشرار ، فأسأت لنفسي ، أما الحشمة والوقار الباديان على المحيا ، لا يكفياني سوء النفوس الآدمية العابثة ، دون أن أنتبه وينتبه غيري إلى ما تفعله نفسه بالآخرين.