فى هذه المجموعة القصصية , التى تتكون من خمسة عشر قصة وهم: ( أصوات نعرفها /الرصيف المقابل / لوزات الجليد / لون فاسد / كسرة خبز / الكراسى الموسيقية / العرض مستمر / البؤرة الفضية / الذى ثأر لضحاياه / القفص الفارغ / نحو الخلاص / ظل للحظات / أحلام تحت المجهر / لا تحرقه / عوض سعيد )هناك العديد من السمات والملامح الأسلوبية , والبنائية , التى نستطيع التوقف عندها كثيرا , لما تتمتع به هذه المجموعة القصصية ( لوزات الجليد )
من عوالم مختلفة و ثرية , ما بين الواقع والخيال , الواقعى والميتافيزيقى أيضا , وبلغة شعرية تلمح , ولا تصرح , توحى , ولا تعلن , وكما قال العديد من النقاد العالميين والعرب , فى آن واحد , بأن نظرية الأدب عبر النوعية , للأجيال الحالية والمتعاقبة , أصبحت بمثابة طوق النجاه , للخروج من مأزق الحالات التقليدية , والغير مشعة فى لغة السرد المعاصر , وذلك بأكثر من معنى متداول وليس آحادى الوجهه , فمن ناحية , إفتقد الأدب المعاصر الى حد كبير هويتى المكان والزمان , فما يكتب بدولة ما , قد يكون مقروءا أكثر فى بلد آخر , وليس باالضرورة البلد المنتج لهذا العمل الإبداعى , فما يكتب _ على سبيل المثال _ فى أمريكا اللاتينية , قد يكون مناسبا لغالبية دول العالم الثالث من بلدان العالم العربى تحديدا , لغة , وحالة , وإبداعا , وهذه الأولى ......
والثانية : -
فى نظرية الأدب عبر النوعية , تلاشت الكثير من المسافات , التى كانت قائمة , وسقطت الحوائط والأبنية من حيث النوع , فمثلا الكاتب القصصى المعاصر , أصبح يستخدم بعمله القصصى لغة المشاهد , أى الكادرات السينمائية , كما إستفاد أيضا من مختلف الفنون , من تقنية المسرح , واللغة المسرحية , وأيضا التعبير فى أعماله القصصية , بلغة مكثفة ودالة , أقرب ما تكون الى اللغة الشعرية,
كما أن هذا لا يمنع الكاتب القصصى البارع , فى إستخدام اللغة البصرية اللونية , فى رسم قصصه الإبداعية , كلوحة تشكيلية معبرة , والمزج بينها وبين الفن الموسيقى , عبر مقطوعة موسيقية مثلا , أو ما يشابهها 000
كان لابد من هذه المقدمة الإستهلالية , للدخول الى عوالم هذه المجموعة القصصية المتميزة ( لوزات الجليد )
وفى هذا العمل , لن أقف أمام حالات مفردة تحليلية , كعامل اللغة باالنصوص , أو البناء, أو الحالة , كشكل تشريحى من أشكال النقد الأدبى المعاصر , أو تفتيتى , ولكن سوف أحاول تطبيق كل هذا, فى محاولة إختيار بعض نماذج من هذه المجموعة القصصية ( لوزات الجليد ) والتعامل معها , ولتكن هذه القصص على سبيل المثال وليس الحصر ( أصوات نعرفها / لوزات الجليد / الكراسى الموسيقية / الذى ثأر لضحاياه ) محاولا التوغل الى أعماق هذه النصوص الإبداعية , وذلك للعلاقة الوثيقة بين هذه القصص , وبين ما ذكرت ببمقدمة هذه الدراسة النقدية سابقا .....
أولا : _ اللغة الحركية فى
( أصوات نعرفها )
فى هذا العمل القصصى , نلحظ للوهلة الأولى أننا بصدد عملى حركى , صوتى باالدرجة الأولى , ما بين أكثر من مصدر لهذا (نقر الكلمات/صوت زخات المياه/جرس التليفون/جرس المنبه/جرس الجوال...الخ )
إلا ان هناك صوت لم يذكره الكاتب فى سياق عمله القصصى , ربما على المتلقى , أو القارىء أن يبحث هو عن مصدر هذا الصوت , إذ فى هذه القصة يصحبنا الكاتب للعديد من التخيلات والتوهمات _ أحيانا _ حول مصدر هذا الصوت الأنثوى تحديدا , هل هى محبوبته , صديقته , زوجته , أمه , أم صوت داخلى يناوشه بين الفينة والأخرى ...
فى لغة شعرية صافية , ومكثفة الى درجة كبيرة ومعبرة فى آن , وأيضا لغة تميل الى الشحن النفسى والعاطفى والإنسانى , إنتظارا لما يجيىء به هذا المنتظر , الكاتب يعرف الصوت تقريبا , الكاتب يحس بلهجة الصوت التى ليست غريبة عنه تقريبا , كما أن هناك إحساس ما متبادل ومشترك ما بين الكاتب ومصدر الصوت أيضا , هل القضية هنا كانت فى عدم تعرف الكاتب على صوت أخته 00؟؟
لو كان الأمر كذلك , ماكانت القصة , ولا قيمتها الأدبية , فما القضية إذن , أتصور أن القضية الكبرى , فى كل هذه الأصوات الحميمية التى تسكننا , ونسكنها , وتعيشنا , ونعيشها , ونحياها , وتحيانا , ولكن ..
ما هذه الغربة التى إنتابتنا فجأة , فجعلتنا لا نفرق بين كل هذه الأصوات , لا فرق بين صوت المنبه , جرس الباب , جرس الجوال , جرس التليفون العادى , صوت أختى ..؟؟
أتصور أن الصوت الأخير الذى أخفاه الكاتب عن عمد , هو صوت الإحساس , والمشاعر , والعاطفة , لأن هذا الصوت لا يكذب , هذا الصوت الذى أعطى للكاتب قدرية الإحتمال بأن هذا الصوت هو يعرف لهجتة , ولكنته , ونعومته , ولكنه صمت عن الإجابة ..
أتصور أن هذا العمل من الأعمال الجيدة للغاية داخل إطار هذه المجموعة القصصية ..
ثانيا : _ الصورة المشهدية فى
( لوزات الجليد )
حول هذا العمل القصصى , الذى يعتبر كما قال الكاتب فى عباراته بمثابة ( رسالة ميت ) نحن أمام لوحة تشكيلية بارعة , إستطاع الكاتب
المزج فيها بين العديد من المترادفات, التى أضافت الكثير للعمل , ليخرج العمل من نطاقه المحلى العربى , الى آفاق أكثر رحابة إنسانيا وعالميا , حين يعبر الكاتب بين أكثر من وجه بين ( لوزات الجليد المتساقطة /عزف مقطوعة ( البجعات) لتشايكومسكى/ وهذه واحدة
والثانية : _
( ما بين الدفء والبرودة / الإنسجام والغضب / ( آناريتا / عمتها ) الوضوح/ الكذب /البراءة / البراءة المفقودة عن قصد )
والثالثة : _
الربط ما بين ( آناريتا) ورسالة والدها _
الخوف من عمتها _
_ تفكيرها فى عزف مقطوعة( البجعات) بعد علمها بموت والدها
_ سقوط قطع الثلج فى الفضاء الرحب , بحرية قد تكون ( آناريتا ) فى حاجة كبيرة إليها
هذا العمل القصصى يعود بنا الى مفهوم نظرية الأدب عبر النوعية , التى تحدثنا عنها , فى بداية الدراسة , ولذا نلحظ فى العمل تحديدا , بعد النص الإبداعى , عن الغلاف المحلى المسجل ( بطبع فى كذا أو كذا ) فنحن بصد بصدد إبداع إنسانى راقى باالفعل , ويتحدث عن هموم هذه الأنثى ( آناريتا ) بشكل وبأسلوب أكثر عمقا , يدفعنا الى إعادة قراءة الأدب الروسى من جديد , لنرى ما أضافة الكاتب من إبداع على هذا القص العالمى , بحالاته المختلفة المعبرة عن همومه , وقد كان من الجميل والجديد فى هذه القصة أيضا , وكأن الكاتب يستشرف إبان مرحلة الثورة البلشيفية , أن الحاجة لم تكن أكثر الى رغيف العيش , بقدر حاجة الإنسان الروسى الى الحرية , ثم الحرية , وقد نجح الكاتب بدرجة كبيرة , فى عدم تماهى القضايا والحالات الإنسانية لدية من هذه الزاوية أيضا , وهنا يتوازى كاتبنا الجميل كمبدع وفقط , بعيد عن هوية الدين والوطن , وقريبا من هوية المبدع فقط , الى الأدب الإنسانى والإنسانى فقط , ولا يفوتنى تصويرة الرائع لهذه البيئة وهذا الوسط الإجتماعى بقصتة , وهذه الثنائية المتناقضة للغاية , والتى ربما عن قصد غير مفهوم للإبنه , ولكنها مبررة للعمه , ما بين ( آناريتا / عمتها ) وكذلك هذه السيمفونية الكبيرة التى جمعت ما بين لغة الشعر واللوحة التشكلية , والطبيعة الفنية أيضا , التى ساهمت جميعها فى إخراج , لا أقول هذه القصة , بل هذه اللوحة التشكيلية الرائعة باالفعل ..
ثالثا : _
ما بين الحلم والواقع فى
( الكراسى الموسيقية )
فى هذا العمل القصصى , والربط بين الحلم والواقع من خلال , شخصيتين متناقضتين فى البداية , وهما الذات الفاعلة , الواحدة, وإن كانت تبدو ما بين مدير مكتب ما .., وموظف ما أيضا..
إلا أن الأمر غير ذلك كثيرا , وليس كما يبدو لنا لوهلة الأولى , لأنهما فى حقيقة الأمر ضمن الدلالات التأويلية للعمل الأدبى , أنهما فى حقيقة الأمر شخص واحد , ورجل واحد , الإثنان إذن واحد , داخل بؤرة النفس الإنسانية , بإتجاهين مختلفين ومتنافرين ومتضادين , كلا منهما يرغب فى فرض سيطرته وهيمنته على الآخر , بل ينتظر متى سقوط هذا الآخر , لإحتلال مكانه , والإستعلاء عليه بالأوامر والقرارات وما شابه ذلك , إننا بصد قصة إنفصال الذات الى شقين , ما هما فى الأصل , إلا النفس الإنسانية الموارة بكثيرمن الأشياء والحالات والتعقيدات المختلفة , شكلا وموضوعا , وقد نجح الكاتب فى تصوير هذا الصراع الإنسانى, بين بؤرتى الخير والشر , والعدل والظلم , والحب والكراهية , والمنح والمنع , داخل النفس الإنسانية الواحدة , وبلغة أفادت كثيرا _ عبر بساطتها _ فى طرح هذا المنظور الإنسانى , من أكثر من زاوية وبعد , ما بين العام منه والخاص فى آن ..
يقول الكاتب : _
_ هذه التقارير لا تصلح إلا كأكياس لبيع الحبوب
_ آسف سيدى سأعيد كتابتها
_ أمسك بسماعة الهاتف , رد ظهره للوراء , تأرجح باالكرسى الموسيقى يمينا , فيسارا, نظر لأطراف أظافره لإستعادة لزمات الحوار
_ أعدى خطاب إنهاء خدمات وآحضريه حالا يا آنسه
ولذا ..
نجد أن هذا العمل الإبداعى يقرأ على أكثر من دلالة , وليست دلالة واحدة مفردة وفقط .
رابعا : _
ميتا فيزيقا النص الأدبى فى
( الذى ثأر لضحاياه )
من الواضح مدى إستفادة الكاتب , من عالم علم النفس , وخاصة عالم ميتافيزيقا النفس الإنسانية , فى معظم حالاته الإبداعية , التى تناولها فى أعماله القصصية , وعلى سبيل المثال لا الحصر ( كسرة خبز / البؤرة الفضية /الذى ثأر لضحاياه )
وفى هذا العمل الأخير ( الذى ثأر لفضحاياه ) يتراوح الكاتب متنقلا ما بين عالم الميتافيزيقا ( الروح ) وعالم الواقع ( الجسد ) فى تصوير الحالة , وهو أقرب ما يكون للتضافر مع لغتة السردية المعبرة , وفى هذه القصة( الذى ثأر لضحاياه ) معبرا عن الواقعية الحلمية , أو بالأحرى الواقعية الكابوسية ,لبطل هذا العمل , فمن الناحية الواقعية ( الجسد ) نحن بصدد العديد من حالات الإنهيارات المتعددة , باالمجتمع الإنسانى عامة , وليس العربى خاصة , نفسيا , إجتماعيا , سلوكيا 00الخ...
من خلال نفس إنسانية تميل الى الشراهة فى طباعها المختلفة , ليكون له دور بارز , فى الفتك والتضحية باالجميع , وإذا كان ذلك يدلنا على شىء , فإنما يدلنا على صفة الأنانية المفرطة التى سادت هذا المجتمع المعاصر , حتى أن بطل هذا العمل القصصى , الذى ثأر لضحاياه, لم يكتفى بأصدقائة فقط , بل زوجته وإبنته أيضا , وتلك هى الحالة الواقعية ( الجسد ) أو بلغة أدق هى ( الطين ) المكبل لطباع النفس الإنسانية , فما بالنا بحالة الروح , أو ميتافيزيقا النص الأدبى , لنرى سويا كيف إنشطرت الذات على نفسها , ما بين الجسد والروح , ما بين السمو والدناءة , ما بين الرضا والغضب , فى لغة بسيطة معبرة عن الحالة والحال فى آن , وفى حلبة من حلبات حساب الضمير الإنسانى , ويستدرجنا الكاتب بمهارته ,الى نهاية العمل الغير مألوفة واقعيا , والمألوفة ميتافيزيقيا , من حيث الدلالة المتعددة لهذه العمل الإبداعى , حيث يقول :
( فى الصباح , سقط شعاع الشمس , عابرا من النافذة , على جثة هامدة , ملقاه على الكرسى , أمامها صينية عليها , فنجان واحد فقط
وختاما : _
أتصور أمام كتابات القاص / محمد البوهى , أننا بصدد كاتب واع بفنون القصة القصيرة , ويمتلك الكثير والكثير من مقوماتها , والتى تؤهله فعليا , فى السنوات القادمة , أن يكون بحق واحد من أهم كتاب القصة القصيرة , ليس فى مصر وحدها.....
..
إبراهيم خطاب
عضو اتحاد كتاب مصر
12/5/2006