كان من كعادته دائما أن يضبط المنبه قبل أن ينام حتى يستقيظ مبكرا لكي يمتع عيناه بشروق الشمس وهى تنشر الضياء والدفء في الكون ,وحتى تبتهج نفسه بغناء العصافير وهى تشدو بسيمفونية الصباح , وحتى يملئ صدره بهواء نقى مشبع بروائح الأزهار وبشذا الياسمين الذي يعشقه ويحبه.
ولكن في هذه الليلة كان مهتما جدا وحريصا على أن يضبطه على التوقيت الصحيح حتى لا يفاجأ بالتأخير,وماذاك إلا لان هناك شئ لم يألفه من قبل قد سكن في قلبه ,لدرجة انه تمنى أن ينقضي الليل
سريعا حتى يحتضن الصباح.
شعورا جديد جعله يزداد حب وتعلقا, وهو الذي لم يكن قد تعود على أن يألف مثل هذا الشعور,بل انه
صار يحمل بين أضلعه قلب فيلسوف يعطى لكل ظاهرة معنى , ولكل حركة من حوله تشبيها ومثلا".
صار يجيد فن التعبير ووصف الأشياء من دون أي مبالغة أو مجاملة ,صار يملك حس الشاعر.
كان ذات يوم وبعد أن تعرف عليها , وأصبحت جزء من حياته, واستحوذت على كل تفكيره, واقفا" يتأمل شروق الشمس وذالك اللون الوردي الذي يملئ الأفق قبل الشروق وكيف تتشكل السحب لترسم في السماء لوحة فنية بديعة ,تجعلك تهتف من داخلك سبحان الله .
وفى نفس اللحظة أخذته النسمة إلى عالم أخر , إلى تلك الحبيبة التي آسرته بجمالها , فهي مع جمالها , تملك عند اللقاء إطلاله تجعلك لا تستطيع أن تحيل النظر إلى سواها, وتذكر ذاك العاشق اللون الوردي
وكيف يبسط ثوبه في الأفق ونسمات الصباح الرقيقة تداعب وريقات الأشجار والعصافير تغنى مسرورة , وكأنها تقول:
مرحبا بملكة المليكة.
وتقترب لحظة الشروق ,وتطل الشمس من خلف الجبال رويدا" رويدا " , وكأنها خجلة.
وترجع الذاكرة بذالك العاشق إلى لحظة لقائه الأول بالحبيبة ,وكيف كانت خجولة وعيناها لا تفارق الأرض , ويداها تعبث بحقيبتها , والكلمات تخرج منها مرتعشة, وهى مع ذالك لها حضورا" مميز يجعلك تتمنى أن لاتنتهى لحظات اللقاء , وتتمناها أن تظل على هذه الحالة , فهي بذالك تبعث في نفسك شعورا" بالحب .
وحالتها توحي لك بقصيدة تبدأ منها وتنتهي إليها.
كان ينظر إليها ويجول بخاطره أسئلة كثيرة والاجابه عند تلك الحبيبة, ولكن يمنعه من أن يسألها الحالة التي هو فيها , فهو واقعا" بين نقيضان لا يجتمعان في قلب عاشقا" أبدا".
فهو لا يدرى هل هو يحبها ,وان كان يحبها هل يستطيع أن يبوح لها بما يكنه لها من حب, وهل هو قادرا على التضحية من اجل هذا الحب , حتى وان كان من طرف واحد.
أو انه يكرهها ليحبها أكثر , فهو يكره هذا الصمت الذي يستحوذ عليها, ويكره هذا الغموض الذي يرتسم على محياها وكأنه حاجزا" يمنعه من التواصل معها .
وهل يستطيع أن يخبرها بأنه يكرهها من دون أن تفهم مقاصده من الكره على انه بغضا لها ,فهو يخشى أن تكون ردة فعلها حين يسمعها هذه الكلمة أن يكون قد كتب على علاقته بها بداية النهاية.
ويكون عندها كالذي حكم علي حبه بالإعدام من دون جرم جناه غير انه أحب، ولم يفصح لحبيبه عن حبه.
وهو في حيرته ما بين الحب والكره وتوابعهما ، إذ لاحت الحبيبة من بعيد وكأنها شمس الصباح أطلت
لتنير الكون بنورها ، ودق الجرس وازدادت رناته ، وازدادت دقات قلبه ،وهو يراها تقترب منه ,
ومدت إليه يداها و أخذته على بساط الأمل إلى روضة خضراء تحيطها الأشجار وتحف أغصانها الأزهار ، وأطفال كأنهم حبات من اللؤلؤ من شدة بياض وجوههم وثيابهم ،وهم يتقدمون موكبها الملكي وهى جالسة على كرسي من العاج يبهرك تصميمه ودقة إتقانه وتجره خيولا عربية أصيلة ،والأطفال ينشدون الأغاني وبأيديهم أجراسا" يلوحون بها ،وهى تبتسم وكأنها لا تبتسم إلا لكي تزيده على ماكان في قلبه من آهات الحب آهات اكبر من أن تصفها الأقلام .
كان واقف وعيناه ترصدا كل كبيرة وصغيرة في هذا الموكب المثير ، ومنبهرا بالتنظيم والنظام ، وكأنه يعيش أحداث فيلما مصور ، هي البطلة فيه وهى التي تقوم بإخراج أحداثه، وتركت النهاية له لكي يضع لمساته ، وهذا ما زاد من حيرته ، وما أعطى لقصته معها تشويقا وتحدى .
وازداد الصوت ارتفاعا" ، وازداد الموكب اقتربا ، وتسارعت نبظات قلبه .
وبينما هو مستمتع بهذه الأحداث ومندمجا معها اندماج الروح للروح، إذ بنسمة هواء ربيعية تداعب أجفانه وتزيح عنهما ستار الليل ، ولتشرق شمس الصباح ،و تنشر الضياء في الغرفة ، ولتجدد العصافير أنشودتها ،ولتعزف سيمفونيتها ، وليعبق المكان بروائح الأزهار والياسمين، مرحبة بيوم جديد كله حب وخير وسلام .
وبخطوات بطيئة ملئها الثبات، وبابتسامه ملئها الرضا والسعادة ، ذهب ذاك العاشق إلى حيث يوجد المنبه وهو لا يزال يرن, وتناوله بيده وأقفله، وفتح الشباك وهو يدرك يقينا بأنه كان في رحلة إلى عالم الرومانسية هي التي أعادت بلطفها ومشاعرها ورقتها الحياة فيها.
وترنم بأبيات شعر لمجنون ليله تقول:
لقد ثبتت في النفس منك مودة
كما ثبتت في الراحتين الأصابع
وأنتي التي صيرتى جسمي زجاجة
تنمو على ما تحتويه الأضلاع.