اللغة العربية في بؤرة الهدف
في كل يوم جديد يطالعنا عَلَمٌ من أعلام ثقافتنا المعاصرة البائسة بهجوم أو طعن في الأصالة بحجة التطوير والتحديث , هذه اللكنة التي بات يرطن بها رجال الثقافة والعلم, والسياسة والهيئات والمحافل من أعلام ونكرات, وكأنهم قطيع ديكة الحبشة, ما أن يستمع إلى همسة أو وسوسة أو كتكتة من طفل عابث, حتى يكركر بأنشودته المعهودة التي حفظها صغارنا عن ظهر قلب, كجوقة أحسنت التدريب وأساءت التعاون !
وتعلمون ما جرى من محاولات بائسة أحيانا ومهلكة أحيان أخرى , لجرجرة اللغة العربية إلى أوحال العامية والدارجة المحكية, وقد كان من أوائل من نهج هذا النهج د.طه حسين , وتوالى بعده آخرون يدندنون على نفس الوتر والوتيرة, وقد قامت بعض الجهات مشكورة بإنتاج مسلسلات للأطفال لطيفة وجميلة ومناسبة للطفولة تحمل على عاتقها إعادة صياغة ألسنة الأطفال على أسس فصيحة ( افتح يا سمسم ) ..., وآخر – نسيت اسمه - لم يزل قائما على الفضائية اليمنية, كما اتخذ الهجوم شكلا آخر على صعيد الشعر, فقد تنبه الحاقدون لأهمية الشعر عند العرب , و إليكم قول الشاعر الحمداني أبو فراس :
الشِعرُ ديوانُ العَرَب *** أَبَداً وَعُنوانُ الأَدَب
لَم أَعدُ فيهِ مَفاخِري *** وَمَديحَ آبائي النُجُب
وَمُقَطَّــعاتٍ رُبَّما *** حَلَّيتُ مِنهُنَّ الكُتُب
لا في المَديحِ وَلا الهِجا***ءِ وَلا المُجونِ وَلا اللَعِب
يختصر مكانة الشعر, فكان الهجوم على الشعر ذو محورين :
- أولاً:النيل من القصيدة العمودية المعروفة بشكلها الجاهلي والخليلي وحتى التشكيك و نكران الشعر الجاهلي ( د.طه حسين ) .
- ثانياً:تلميع الأشكال المحلية والشعبية من عتابا وميجانا وقصائد اللهجة المحلية الدارجة في منطقة الخليج وغيرها من المنطقة العربية.
المنافقون لهذه الأشكال الجديدة التي تحمل ظاهرا شعبيا وباطنا عدائيا قاتلا هو الجهات الرسمية من صحافة و إعلام .
أولاً : النيل من القصيدة العمودية.
أ- بدأ مع نهايات الحرب العالمية الثانية, عندما بدأت قصيدة التفعيلة خروجها على أقفاص الفراهيدي الستة عشر ( كما يقول نزار قباني ),
فقصيدة التفعيلة هي انعكاس للهزيمة النفسية للأمة في تلك الحقبة, وانتصار للشعر المرسل الذي امتاز به الأوربيون , وأنا أرى فيها غنائم المستعمر, والسبب في هذه الهزيمة من وجهة نظري هو:
1- أهل الشعر والعروض, فعلى الرغم من وضوح الأقفاص الستة عشر , إلا أنها جاءت صورة لعبقرية الخليل التي لم ينشر الخليلُ عنها شيئاً, بمعنى أنها (سر الصنعة) , ولم يستطع احد من أهل العروض أن يخترق هذه الصورة فيقدم للناس هذا السر, فشأنه كشأن كل الأسرار أن يضمحل ما لم يُبْسَطْ ويسهل أمره لحامليه ومتعاطيه.
2- الرموز الثقافية للأمة الذين خانوا عامدين متعمدين, أو لاهثين مبهورين ببهرجة الثقافة الغربية مقلدين لها فضاعوا وأضاعوا.
3- الجو النفسي العام للأمة المهزومة هزيمتين متتاليتين (العالميتين) على يد أوربا ودعاة القومية العربية الذين أسسوا مؤتمرهم الأول في باريس 1913 وتآمروا مع أوربا على أمتهم ووصلوا أوج قوتهم مع نهايات العالمية الثانية.
ب- مع نهاية عهد الحرب الباردة وسيطرة القطب الواحد والانترنت والتقانة الحديثة , بدأ هجوم جديد على قصيدة التفعيلة, وظهر ما يسمى بقصيدة النثر, وبدأت تحتل مكانها في الأوساط الأدبية الرسمية وبين النقاد, وبدت القصيدة العمودية وكأنها غريبة عن الأدب في أوساط الحداثة غريبة عن روح العصر, وقد ساعدت عدة عوامل على انتشار قصيدة النثر :
1- لا قواعد ولا صرامة ولا نمط ولا هيكلية.
2- ومضات قصيرة تتلاءم مع ندرة الوقت.
3- لا وضوح ولا اعتماد على الأساليب اللغوية, جعل منها شكلا قابلا لجميع التفاسير وفتح الباب على مصراعيه للأداة الإعلامية العميلة أو الغبية كي تلمع هذا النمط الأدبي وتدفع به إلى الواجهة.
4- في عالم مترع بالتناقضات, ساعدت قصيدة النثر على تشكيل جو من العزلة يلجأ إليه الشاعر هربا من ضغوط الواقع, إلى كيان خاص به يفهمه هو دون أن يفهمه الآخرون, وأحيانا دون أن يفهمه هو ذاته.
أما خلاصة المكاسب من هذا الهجوم فأوجزها ههنا :
1- قطع الأواصر بين المرء وثقافته ولغته
2- قطع الأواصر بين الوجوه المختلفة للثقافة الواحدة, فقصيدة النثر شكل غير قابل للغناء, ومع استمرارها لا بد أن تفرض أشكالا جديدة للغناء لا تنتمي إلى ثقافة الأمة.
3- ثقب ذاكرة الأمة, فالشعر بشكله التقليدي وارتباطاته الثقافية ساعد على تثبيت كثير من المفاهيم في ذهن الأجيال على سبيل المثال ( بلاد العرب أوطاني ... ).
4- نسف تاريخ الأمة, فقد عمل الشعر على تأريخ حوادث الأمة بعيدا عن المحافل الرسمية العميلة, مما جعله وعاءً اقرب إلى الصدق والذاكرة الشعبية من الكتابات التقارير والدراسات المسيسة, ويعكف الآن بعض رجالات الأدب في فلسطين على جمع القصائد التي أرَّخت للقضية الفلسطينية .
5- خطوة أخرى على طريق طمس معالم اللغة العربية, ثم حذف القرآن الكريم من ذاكرة البشرية.
6- ازدادت الشروخ بين المجتمعات المتقاربة وبين الفرد والمجتمع, وتهيأت المجتمعات العربية لأن تكون فريسة للأفكار الوافدة.
ثانياً :تلميع الأشكال الشعبية للشعر.
بالرغم من ضعف تأثير هذا الهجوم, إلا أنه رضي من ذلك بالقليل, فقد استطاع هذا الشكل أن يحفظ القوالب الغنائية والضروب والأوزان السائدة في الذاكرة الشعبية ألا انه مؤهل لأن يحقق مطمحا وهدفا من أهداف الهجوم على اللغة والأمة :
1- وعاءً شعبيا لتأصيل اللهجات المحلية.
2- ذاكرة شعبية مستمدة من فكر شعبي ضحل يساهم في مسيرة الانحطاط.
3- عاملا إضافيا في التفرقة الإقليمية والتشتت
4- بديلا للشعر والثقافة العميقة الواعية بأخرى ضحلة وتحقيقا لمبدأ التفريغ والإحلال الثقافي.
مجمل هذه العوامل أدت إلى تسارع وتيرة الانحطاط , وبدل أن تأخذ الطبقة المثقفة دورها في رفع شأن الأمة وتثقيفها, فقد ساعدت بقصد أو غير قصد على إنهاك جسد الأمة ودفعها إلى السقوط والتهاوي, ولكن السؤال الملح الذي يفرض نفسه :
من وراء كل هذا ؟!
سأبسط الأمر للوصول إلى إجابة.
الإنسان طاقة مبدعة متميزة عن كل ما سواها من المخلوقات اجتماعية تسعى إلى تحسين ظروفها بطريقة أولية فردية وبطريقة جماعية أكثر تطورا وفاعلية, يتحمل فيها الكبار الحصة الكبرى من العبء والمسؤولية الجماعية.
فماذا لو أن الكبار استغلوا مكانتهم وراحوا يفكرون بطريقة فردية فنموا واضمحلت مجتمعاتهم؟
ثم ماذا لو أن آخرين استغلوا فردية وأنانية كبير احد المجتمعات, وبغيه وطغيانه؟
ثم ماذا لو كشفنا عن بصيرة المجتمع وكشفنا له ما حاك له كباره من غدر وخيانة؟
ثم ماذا لو قمنا بتخيير كبير هذا المجتمع بين أن نمد له يد العون ونمنعه من قومه, وبين أن نمد اليد إلى قومه فينتزعونه وينتزعون منه حقوقهم عنوة؟
ثم ماذا لو رضي الأولى فقدمنا إليه قائمة من الأوامر يفرضها على قومه ومددنا له يد العون مادام مطيعا منفذا لما نصبوا إليه , ثم خلينا بينه وبين قومه لو انه فكر بالتمرد والعصيان؟
وماذا لو رضي الثانية فمددنا يدنا إلى قومه فأخذوه نقمة؟
أليس هو هذا واقع الأمة؟
لننظر إلى الأمر بطريقة أخرى :
فلو أن كبير القوم قام بواجبه كما ينبغي, وكان أقرب ما يمكن إلى قومه, مصلحته جزء من مصلحة الجماعة, لكبر وكبر معه قومه, و لاستعصم و استعصم قومه عن الآخرين, و لكشفت بصيرة القوم عن خير كبير لخير قوم, ثم لم يجد المتربصون سبيلا إليه ولا إلى قومه, و لوجدتهم أشداء على أعدائهم رحماء بينهم, ولعل هذه الرحمة التي تحكم مجتمعه وجدت سبيلها إلى مجتمعات أخرى ترفع عنها ربقة الذل والعبودية, وهذا شأن المسلمين الفاتحين, وبين هذا وبين ذاك مآرب وغايات.
أعود للسؤال من وراء ذلك؟
أهو الآخر الذي استغل, فأمر واستحكم؟
أم هو البغي بحد ذاته, بدليل أنه لو رفض كبير القوم الخضوع للآخر, أقاموا عليه الدنيا وكشفوا عن سوء سريرته وبغيه, وكان سبباً كفيلا بأن يقطع الأواصر بينه وبين قومه, ثم يجعلهم جميعاً فريسة الآخرين.
أم فعله كبيرهم هذا !
فاسألوهم إن كانوا ينطقون.