أيها الرئيس ..
أنت الحامل للواء ولاية الأمر ..
أنت الذى جئت بظرف بالغ الصعوبة .. عرفته البلاد .. على نحو لم يسمح للطامعين بكرسي العرش .. أن تبلغه مطامعهم ..
لحظة .. كانت فارقة فى التاريخ الحديث ,
كنا عرفناك يا من تشغل مقعد العزيز .. بطلا فى حرب البطولة .. وأحد النوابغ القلائل الذين يحبون دوما مزية العمل فى صمت ..
كنت نقيا .. تعلو ملامحك السمحة آيات التواضع .. وأنت قائد كبير لأهم فروع الجيش الأشم .. خير أجناد الأرض ..
وهناك .. فى عام الهزيمة .. كنت محلقا على طائرتك قائدا لسربك لا تدرى أين تضع حملك .. مع كل ما حم بالأرض والجو من رياح الهزيمة ..
كنت كعشرات الجنود المجهدين بطعم الهزيمة المر فى الحلوق ..
حتى نزلت على الأرض بصعوبة بعد تأمين سربك الذى تولين قيادته .. وهرعت الى قيادتك العليا مع من تحت قيادتك .. وجعلتم أنفسكم وأرواحكم رهنا لنداء الوطن فى سبيل استعادة الشرف العسكرى المفقود ..
وبدأت الخطوات تترى ..
أتذكر يا سيدى تلك الأيام المجيدة .. التى خضتم فيها معارك الاستنزاف وأعدتم بنتائجها الباهرة روح العزيمة والقتال .. وأثبتم للعالم أن الهزيمة وان قست لا تقصم بل تفعم ..
أتذكر يا سيدى رفاق السلاح .. وأبناءك من نسور الجو .. كيف كنت لهم أبا وقائدا ومثلا ..
أتذكر ذلك الضابط الصغير تحت قيادتك والذى استدعته ظروفه الشخصية للغياب .. ولم يجد أحدا من زملائه يقبل التضحية بأجازته لأجله ..
أتذكر كيف ثرت .. وجمعت الكتيبة .. وأعطيتهم درسا قاسيا فى كيفية احترام الزمالة ورفقة السلاح .. وهتفت بالضابط الشاب " اذهب لاجازتك وسأبقي أنا مكانك "
ضاربا المثل الذى لا يباري فى الايثار ..
أتذكر وأنت القائد الأعلى للنسور .. كيف كنت تأتى الى الكتائب دونما حراسة .. وتلقي بكلمة السر عند البوابة وتمر دون أن يدرك جندى الحراسة أنك قائده الأعلى .. لتترجل بعدها وتدخل الى ميس الضباط ملقيا عليهم التحية لتتناول معهم الوجبات دونما تكليف أو كبر أو مظهرية
أتذكر يا سيدى أيام المجد فى المركز رقم ( 10) بقيادة القوات المسلحة .,.
تشرفون على اندلاع حرب التحرير ..
أتذكر مدى براعة الخطة التى قررتها للضربة الأولى التى أطارت صواب العدو وتركته حائرا وأسيرا لمقاتلات النسور التى أحالت دفاعاته الأسطورية لهبا ورمادا ..
أتذكر كيف انبسطت أساريرك واختلج قلبك بهتاف " الله أكبر " وأنت مرفوع الرأس بما حققه أبناؤك من مقاتلى الجو صغار السن كبار التضحية ..
أتذكر كيف فاخرت العالم أجمع بطياريك الذين لم يتعدوا من العمر خمسة وعشرين ربيعا وكان الواحد منهم بألف مقاتل لا يكل ولا يمل .. يلعق جراحه اذا جرح ويندفع الى مقاتلته ليواصل القتال حتى الشهادة أو نوال النصر ..
أتذكر يا سيدى ..
أتذكر .. يوم أن كنت قابعا على الأرض تتابع احدى المعارك الجوية الضارية بين مقاتليك وأحد طيارى العدو فى طائرته الحديثة .. وما هى الا لحظات حتى تمكن الصقر من ايقاع طائرة العدو .. وهرب الطيار بمقعده القافز خارج طائرته المحترقة ..
أتذكر يومها كيف أنك تأملت المعركة الدائرة وأحسست أن الطيار العدو لم يتصرف على النحو الواجب طبقا للسمعة الأسطورية التى يحوزها طيران العدو ..
فطلبت رؤية الطيار الأسير .. وعندما أتوا به اليك بادرته بالسؤال
" ماذا أصابكم .. ؟!! لقد تغيرتم كثيرا عما مضي .. وهبط مستواكم !! "
فرمقك الطيار وقال منكسرا وفى صوته دهشة " نحن لم نتغير .. ومستوانا لم يهبط .. بل أنتم من تغيرتم .. وفقتم مستواكم عما مضي .."
أتذكر تلك الواقعة .. وكلمات الطيار الأسير اليك .. وكيف أن ارادة البناء بأعماقنا كانت فوق تخيل أعدائنا .. تلك الارادة التى استيقظت ثائرة تبحث عن النصر لانتزاعه من بين فكى الهزيمة ..
وأتى النصر .. وتحررت الأرض .. وكان الظن أن ارادة القتال التى استيقظت بالحرب والنصر ستليها فى الاستيقاظ ارادة الحياة والبناء ..
لكن اليقظة لم تأت ... فلماذا يا سيدى . ؟!!
خرجت البلاد واهنة وثكلى من أثار الحروب تبحث عن الاعمار والبناء .. فما باله أتى على قطرات وكنا نحسبه آت على الطوفان ,,
هل تغيرنا للهزيمة كما قال الطيار لك , وعجزنا عن مواصلته بعد النصر فدار الزمن دورته لتعود الغفوة بأشد مما كانت ..
أتذكر كيف خلعت عنك الرداء العسكرى .. واستبدلته برداء مدنى فى منصبك السياسي الجديد .. وخلفت سلفك فيما بعد على الرياسة والقيادة العليا .. وكان سلفك أداة للنصر فى الحرب وأداة هدم فى السلم ,..
وتسلمت البلاد فى اثره وهى تئن بأوجاع الفساد الذى استشري فيها تحت دعاوى الاقتصاد الحر .. فاذا بالحرية تدفعنا للعبودية ..
أتذكر كيف استقبلت شعبك فى فترتك الأولى ..
وكيف نظرنا الى عيونك الملأي بالمشاعر وهى تخبرنا عن القادم المجهول ..
ووجدناك تنتصر للحرية فى أولى كلماتك وقضاياك ..
وقضيت السنوات العشر الأولى لا هم لك فيها الا محاولة اللحاق بالتنمية .. والى جانبك رفيق الكفاح .. وزير الدفاع النابغ وزميل سلاحك فى حرب التحرير..
ومع نهاية الثمانينات .. وعلى اثر عملية فاشلة للمخابرات الحربية وهى العملية المعروفة باسم " كوندور " .. والتى تمت من أجل الحصول على أحد أسرار السلاح النووى من قلب الغرب فى الولايات المتحدة الأمريكية .. تلك العملية التى خضتها بحثا خلف مقعد لبلادك فى النادى النووى
واذ بالعملية تكشفها المخابرات المركزية ويقع رجل المخابرات المكلف بالمهمة قتيلا على أيديهم لتتفجر الأزمة الدبلوماسية بينك وبين الولايات المتحدة .. وتصر الأخيرة على أن يدفع الوزير المسئول ثمن تلك العملية .. ليخرج بعدها الوزير المحبوب من الوزارة ليعتزل الناس بعد أن أدى واجبه باخلاص ..
أتذكر تلك السنوات .. وتلك السنة تحديدا والتى انفردت خلالها بحكم البلاد انفرادا نهائيا .. لتبدأ المأساه ..
وأنا أسميها المأساة يا سيدى ..
لأنها خلفت المكان فارغا لدعاة السوء من أهل النفاق للالتفاف حولك .. واللعب على الوتر الشخصي والمدح المبالغ فيه والذى وقعت فيه بطبيعة الحال .. وكان أن صممت أذنيك عن قول سوى قولهم .. ورأي سوى رأيهم ..
فلماذا ؟!!
لماذا سمحت لنفسك ـ وأنت المقاتل القديم ـ أن يستولى على ارادتك ذوى المصلحة الشخصية .. ليوهموك أنك الفريد النابغة والذى أتى بما لم تأت به الأوائل .. لماذا سمحت لهم أن يزينوا أعمالك لبناء بلادك وكأنها المعجزة التى لم ولن تتكرر ..
لماذا سمحت لهم أن يغيروا نظرتك لانتمائك لهذا الوطن العظيم ..
لماذا سمحت لهم أن يقنعوك بأن الوطن مدين لك بما فعلت على خلاف عقيدتك أننا جميعا للوطن مدينون ..
مهما فعلت أنت أو غيرك .. ومهما قدمت .. فليس هذا الا قليل من كثير ..
قليل من الواجب من كثير منه .. تجاه تلك الأرض التى بذل غيرك حياته لأجلها دون انتظار منه لرد الجميل .. لا لشيئ الا لأنه يعترف أنه ليس بمسد الى الوطن جميلا بحياته .. بل هو أداء الواجب لا غير ..
لماذا سمحت لهم باحاطتك بشرنقة الذاتية .. واللهاث خلف تخليد الأعمال مهما صغر أثرها ..
لماذا لم تنتبه للقسم الذى أديته ؟
ذلك القسم الذى يحيط بعنقك احاطة السوار بالمعصم ..
هل صدقت حقا أنك أديت حقه .. ؟!!
ان كنت حقا صدقت أنك أديت حقه فأنت مقصر لا محاله ..
لأن هذا القسم لا يؤدى واجبه الا من رحل عنه وهو مدرك تمام الادراك أنه مقصر فيه ..
ألا تذكر الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه .. ذلك الرجل الذى لم يسمع بمثله حاكم فى العدل .. وكان الناس فى حضرته من مشارق الأرض ومغاربها شهود على كفاية عدله .. فلم يسمح لنفسه أن تتكل على شهادتهم .. وظل حتى الرمق الأخير من حياته مؤمن تماما أنه مقصر بحق رعيته .. واتجه الى الله طلبا لرحمته ..
وكانت آخر كلماته فى الدنيا .. أنه يكفيه أن يخرج من الدنيا كفافا لا وزر ولا أجر ..
من هذا القائل ..؟!
هذا أعدل الحكام على الأرض .. هو من يقول أن يكفيه الخروج كفافا ويعتذر الى الناس بهذا التقصير الذى يؤمن بارتكابه فى حق رعايتهم ..
فما بالك أنت ..؟!!
ما بالك تسمح لحاشية السلطان أن يسربوا لنفسك احساس أداء الواجب وأنت فيه جد مقصر ..
كيف سمحت لهم باختصار الوطن فى اسمك واسم أعمالك التى لم تأت بعد بمعشار واجبك نحو الناس ..
كيف سمحت لهم باستغلال هاجس الأمن لديك .. بعد تجربة سلفك العصيبة ليبعثوا فى نفسك احساس البعد عن الناس والايمان التام بالبعد عنهم طلبا للنجاة ..
ألم تسأل نفسك أن الموت قدر لا يرد رسوله اليك أينما كنت ..؟!!
وأنك مهما اتخذت من أساليب التحفظ ... والجيوش لا شك أنه بالغك بالوسيلة التى سيقدرها الله تعالى عليك أينما كنت ..
لو كانت الجحافل المسلحة تنفع أحدا .. لكان أولى الناس بنفعها سلفك الذى اغتيل وسط جيشه وهيلمانه ..
لقد أقنعوك بالبعد عن البسطاء .. فكيف نسيت بساطتك ..
لقد أقنعوك بالبعد عن معاناة الناس .. فهل نسيت أنك منهم ..
صوروا لك أن الغنى هو مصدر الشرف .. والطاعة العمياء مصدر الاستقرار ,.
فهل اكتسبت الشرف باتباع سبيل الأغنياء ..
وهل اكتسبت الطاعة المخلصة باصطفائك لأهل الثقة ..
لو كان الغنى مصدرا للشرف لصان عهدك من حفظت لهم مكانهم المقرب الى جوارك وهم عند أول منحنى فى الطريق سيتركون أمانتك الى غيرك لأن دينهم هو البيع والشراء
ولو كانت الطاعة العمياء مصدر الاطمئنان .. فلم لم تسأل عن الاخلاص ..
الاخلاص الذى لا يأتى الا بحب .. فهل أحبك من أطاعوك ..
ان طاعة الخوف يا سيدى ذئب نائم .. عندما يوقن بغفلتك عنه ستظهر أنيابه .. وساعتها لن توجه اليك .. بل الى ولدك وعائلتك ..
ولدك الذين أغروك بتقديمه وهم بلباس الناصحين ..
ثق أنهم سيكونون أول البائعين لا المبايعين له ..
ولو قدرت له الخيانة .. سيكون أول خناجرها من أولئك الذين زينوا لك تقديمه
ما الذى قالوه لك ليدفعوا الى قلبك وعقلك تقديم ولدك الى المعاناة ..
ألم تسأل نفسك ما الذى ستجنيه فى آخرتك من هذا التقديم ..
ألم تحسب حسابا لأوزارك أنت وحدك فى الحكم .. حتى تأتى بمن يخلفك على يديك فتضاف أوزاره اليك قبل أن تضاف اليه
عبق الجاه ولذة الحكم التى اكتنفتك .. لن يطول أثرها ..
وأخشي ما أخشاه أن تستيقظ منها حيث لا تفيدك اليقظة عند الحساب ..
لو كانت الدنيا مبسوطة لحياة بلا نهاية .. لكان لك المبرر فيما تفعله
لكنها والله يا سيدى دنيا خلقت لتفنى ..
وللموت رجفة لا شفاء منها ..
وللهلاك وقفة .. لن تستطيع عندها الرجوع ..
فهل لك من وقفة تراجع فيها نفسك وتقف لنفسك .. قبل أن يوقفوك فلا تستطيع حراكا
والله تعالى .. تواق الى توبة العبد ما دام فى دمه نية التوبة ..