كان اللَّيل قد ألقى بستائرة المكفهِّرة على الطرقات عندما كان زَيْدان عائداً من قرية أم الجِمال إلى بلدته ، و لمَّا كان البرد يكشِّر عن أنيابه ، والمطر ينهمر بغزارة شديدة ، فقد قرر زيدان اللجوء إلى مغارة الـزرازير
الممتدة في تلك التلة الصغيرة علَّ المطر يَهْدأُ من انفعاله و تتوقف شرايين السماء عن النزيف 0
وما إنْ باشر زيدان بعبور المغارة حتى رأى عينين تبرقان داخلها0
عندها أحسَّ بأنَّ هاتين العينين هما " ضَبْعٌ" يكمن هنا 0 ولما كان معتاداً على مقارعة الضِّباع فقد تقدم منه ببطىء، ثم قفز عليه بسرعة البرق ، وبعد عِراك شديد تمكن زيدان من خنق الضبع و جره خارج المغارة 0 وأثناء جره للضبع كان زيدان يركل جسماً غريباً أحس بفطرته الريفية أنه جسم لآدميٍّ ميت ٍ 0
حمل زيدان قداَّحته ثم أشعلها ، وأخذ يتحسس بإحدى يديه هذا الجسد 0 إنه جسد أنثى 0 ورغم أنه كان في عجلة للرجوع إلى زوجته وأولاده الذين لم يرهم منذ أسبوعين ، فقد قرر المبيت في معـــارة الزرازير حــتى الصباح لكي يتحقق من شكل هذه الأنثى 0 فأبناء الريــف لديهم نخوة أصــيلة تدفـعهم دائماً إلـى مد يد الـعون حتى للغرباء، فكيف بأبناء بلدتهم الواحدة ثم إنه لا بد له من معرفتها فالبلدة صغيرة ، وجميع أفرادها يعرفون بعضهم 0
وضع زيدان نعليه تحت رأسه وغرق في نوم عميق ، لقد بلغ منه التعب حدا ً جعله يستغرق في نومه و كأنه
صخرة جثمت على آلام الأرض 0
ولما بزغ أول خيط للضوء وكان زيدان قد أفاق من نومه كعادته فتململ قليلا ً ثم نهض ، و أخذ يقلِّب الجثة ثم غطى الجزء المكشوف منها و جر الضبع إلى داخل المغارة ثم سد َّ بابها بمجموعـة من الحجـــارة وقفــل راجعا ً إلى بلدته و لما دخل البلدة كان لا بد من المرور عبر السوق حتى يصل إلى بيته الواقـــع في الـــطرف الآخر و أثناء مروره في السوق سمع عليا ً يصيح كعادته وهو راكب حماره ويقول :
" من رأى أو سمع أخبار ( حرمة ) عبد القادر فله مئة ليرة ذهبية " 0
وتبسم زيدان بينه و بين نفسه و دخل الدار فقامت زوجته وجهزت له صحنا ً من اللبن والدبس و جلــست إلى جانبه و أخذت تحدّثه عن قصة مريم ، ثم استطردت في حديثها قائلة : إنه لمن الغريــب حقا ً أن تــختفي في ليلة زواجها 0 فهي كما عُرفَ عنها فتاة خجولة مأدبة ابنة حسب و نـسـب ، ولم يعرف عنها السوء قط
لقد كانت راضية بزواج ابن عمها عبد القادر ، ولكن قد تكون غزوات البــدو قد اختطفتـــها ، والنـــاس في ضجة العرس فهب جميلة والعين عليها كما يقولون 0 وحمد زيدان ربَّه بعد أن مسح فمه بطرف منديله و قال : لا تتعجلي يا خديجة ، فكل شيء لا بد أن يظهر على حقيقته مهما طال الزمن ثم حمل نـفسه متوجـــــها ً إلى مضافة أبي عبد القادر و سلَّم على الجميع ثم جلس في أحد الزوايا يستمع إلى حديث الرجال 0
قال أبو عبد القادر : سنقوم بتشكيل مجموعات خمس وكل مجموعة مؤلفة من ثلاثة رجال يجوبون القرى ولا يرجعون إلى البلدة دون أن يأتوا برأسها مهما كانت الظروف لقد خفّضتْ رؤوسنا بين العشائر ، وأقــــسم أنها ستصير عبرة لمن يعتبر 0
وتنحنح زيدان ، وقال : يا جماعة ! لا تتعجلوا ، فشرفكم مصون ، وكرامتكـــم محفوظـــة ، وابنــتكم ابنة الرجال ! وتلفَّت الجميع إلى زيدان و هم مشدوهون 0 قال أبو عبد القادر :
أكمل حديثك يا بني ! و أردف زيدان كلامه قائلاً : البارحة عُدْت من قرية أم الجمال و ساقتني الأمطــــار إلى مغارة الزرازير علَّ السماء تتوقف عن الهطول 0
وما أن دخلت المغارة حتى وجدت فيها ضبعا ً فخلَّصْتُ عليه وحملته خارج المغارة فتعثرت قدمـــاي بـجسد آدمي وانتظرت حتى الصباح فوجدت ابنتكم قد أكل قسم منها فأغلقت عليها باب المغارة ، فاركبوا خيولكم و ستجدونها0
هتف الجميع بصوت عفوي : ابن أصل يا زيدان ! بارك الله في همتك ، و ستر عرضك 0
وانطلقت الخيول لترجع بالعروس و الضبع حيث عـُلَّـقَ أمام دكان أبي عــدنان ليراه الجميع و ليــعرفــوا أن شرف الفتاة كان أبيض 0
حسين علي الهنداوي