مرض باركنسون
بقلم خالص جلبي
عندما شعر مهندس الكمبيوتر (جورج) المغرم بعمله، من سكان ولاية كاليفورنيا بأن أصابع يده ترتجف، من حين لآخر، لم يعرها انتباها كبيرا، وعزاها إلى الجهد وكثرة ضرب الأصابع، على لوحة الكمبيوتر، الذي لا يكاد يبتعد عنه.
إلا أن هذا الرجفان (اللا إرادي) تطور بشكل مأساوي مع الوقت، فقد بدأ بالانتشار إلى بقية الأطراف العلوية سوية.
كان المرض يتطور وفي علاقة متناقضة محيرة، ففي الحين الذي ترج أطرافه وكأن يده (تعد النقود) أو (تسبح بالمسبحة)، كان يشعر أن بدنه، وكأن مادةً لاصقة تتغلغل في كل عضلة من عضلات جسمه الثقيل؛ فهو متصلب، متيبس، يقتلع خطواته اقتلاعا، وينتقل بصعوبة بالغة، فإذا شد على نفسه، وأراد الإسراع، فقد توازنه، فهو يُهرع إلى الأمام، وكأنه يركض خلف مركز توازنه.
لقد استحال إلى كيان مشوه، وبدأ يفقد السيطرة على نظام العضلات في جسده، مع كل الصفاء الذهني الذي يتمتع به دماغه، واكتملت الصورة المرضية بفاجعة على الوجه، فجمدت التعبيرات، وزالت الابتسامة، واختفى الضحك والبكاء ومعالم الرضى والغضب، وتحول الوجه إلى قناع ثلجي جامد، لا ينم عن معنى كما في وجه وزراء الخارجية في العادة، ورؤوساء جمهوريات الخوف والبطالة.
كان المرض واضحاً لدى الأطباء، فهذا المزيج من وجه الأموات، والشلل الرعاشي، وُصف من قبل الدكتور (جيمس باركنسون) منذ عام 1717 م، عندما عرفت طبيعة المرض المترقية، التي تفضي بصاحبها مع الوقت إلى العجز الكامل، سواء المشي أو النطق.
ومع تقدم علم التشريح والفيزيولوجيا أمكن إماطة اللثام، عن أسرار مدهشة في حركاتنا العادية، التي نؤديها في كل لحظة، بكل دقة وتوازن، ولا نعرف هذه الدقة المخيفة في الأداء، حتى نرى خسارتها، فالتوازن يعمل حتى في النوم.
فإذا اضطرب هذا الجهاز، استيقظ الإنسان على الدوار، ولو كان يغط في أعمق السبات، وهو ما حصل معي يوما، ولم أصدق حتى سقطت على الأرض حين تحديت قوانين جسمي فعرفت أن الإنسان خلق من ضعف.
فهذه الآليات الرهيبة من التوازن، في حركات العضلات، تمثل سيمفونية من أبدع أنواع ألحان، بين الشد والارتخاء، والبسط والقبض.
وهناك شبكة من الاتصالات بين قشر المخ، في الأعلى، ومراكز توازن الحركة في الدماغ المتوسط، بحيث تمضي الحركة بدون زيادة أو نقص، فالدماغ المتوسط كأنه الميزان العادل، الذي يدرس قوة الحركة، فيعطي الأوامر المناسبة، إلى العضلات المناسبة، في التنسيق فيما بين بعضها البعض، لتخرج الحركة في رشاقة كاملة.
وكل نقص يمشي باتجاه الشلل، وكل زيادة باتجاه الرقص، وهناك مالا يقل عن سبعة أمراض من هذا النوع بين الشلل والرقص، ومنشأ اضطراب الحركة هو في بقع صغيرة للغاية تم الكشف عنها، منها منطقة سوداء اللون (substantia Nigra ) وسط أدغال الدماغ، في حجم رأس دبوس، ذات وظيفة في غاية الحيوية، عدد الخلايا فيها حوالي المليون، تقوم بإفراز مادة على غاية الأهمية هي (الدوبامين Dopamin)، وتأثير هذه المادة ينحصر في تمرير الأوامر العصبية بين الخلايا العصبية، فهو مثل جهاز التحويل الدائم للأوامر العصبية.
إن مادة الدوبامين المفرزة تنتقل إلى منطقة مجاورة هي اللحاء ( Putamen) وهذه بدورها تقوم بتنظيم التنبيه العصبي بين الخلايا، عبر الوصلات العصبية (السنابس Synapsis)، بحيث تصل أوامر الحركة في أحسن صورة ممكنة، وكأنها أوتار العود المتوترة بين الشد والانبساط، فيخرج نغم الحركة أحلى ما تتلقاه الأذن.
ليس هذا فقط بل تناسق الأنغام، كي يخرج اللحن شجياً، والأغنية يطرب لها الفؤاد، وبذلك تستقيم الحركة بين تقليب ورقة وكتابة جملة.
بين استنشاق زهرة، وزر سترة، بين رشفة الماء، وبلع الطعام، وإنشاد الشعر، ودمع العين، بين السباحة، وقيادة السيارة. بين إبداع الرسم، وفن الجراحة، وعبقرية الكتابة بالقلم، وأعمال الخفة ولو مسك قدح من الماء.
نحن ننهمك يومياً في عشرات الأعمال المعقدة، دون أن نعي أن خلفها رأس الدبوس الأسود، الذي لا يتوقف عن إنتاج مادة التوازن الحركي، ومرض باركنسون هو تدمير خلايا هذه المنطقة، والتوقف عن إفراز هذا المداد الأسود الذي يسطر حركات عضلات الجسم .
عندها يعرف المرء كم كانت الطبيعة البشرية رائعة الخلق، وفضل الله علينا عظيما، وإن تعدوا نعمة الله لاتحصوها...