مـحــاكــمــة
- باسم القانون نشرع، ولأجل العدل نهدف، وعلى سبيل الحق نمشي. قررت محكمتنا الموقرة النطق بحكمها النهائي في وجه المتهم.
رفع القاضي ناظريه عن أوراقه إلى المتهم المتداعي في وقفته أمامه كالمذهول فقال بصوته المرتجف:
- عفواً سيدي. (وازدرد ريقه بصعوبة بالغة) بما تتهمونني؟
اكتظت القاعة بالضحكات، وغصت بقهقهات انخرط فيها كل من حضر المحاكمة، وفاضت عينا القاضي بالدمع المسفوح، ثم قال بعد لأي وهو يحاول أن يعيد سيطرته على الموقف والحديث فلا يستطيع إذ تمنعه ضحكته المسترسلة.
-المحاكمة بلغت نهايتها، وأنت تسأل عن تهمتك. أحقا لا تعرفها؟
هز رأسه.
- عفوا سيدي، كأني لم أكن حاضراً معكم، ولم أسمع شيئاً، و لا علم لي بسبب هذه المحاكمة.
أطلت البغتة من عيني القاضي، ثم ضرب كفاً بكف. قفز صوت وكيل الحق المدني:
- هراء ما يقوله المتهم، إنه يحاول خداع المحكمة، والتملص من جريمته النكراء.
رفع القاضي يده مشيراً له أن يصمت. وكأنه قد فهم قصده. التفت إلى المتهم متسائلاً:
- ماذا تقول في هذا الإتهام؟
- عفواً سيدي. أقسم لكم أني لا أكذب، ولا أحاول التملص. وإني لأطمع في سعة صدر محكمتكم الموقرة لمعرفة تهمتي.
- هراء ما يقوله المتهم. إنه يحاول خـ....
وأشار له القاضي مرة أخرى دون أن يلتفت إليه وقال:
-هه..بما ترد؟
-عفواً سيدي. على ماذا؟
- على المنسوب إليك.
- عفواً سيدي. وما المنسوب إلي؟
أطلقها القاضي كرصاصة اخترقت صدره واستقرت في قلبه، وتخاذل إلى الوراء يواشك الوقوع أرضاً هامداً بلا حراك.
- القتل.
وشهق في شبه غيبوبة.
- عفواً سيدي. القتل؟؟؟
مرت لحظات ثقيلة على نفسه حاول من خلالها استعادة هدوئه، ثم تساءل بعدما أفاق من ذهوله:
- عفواً سيدي. قتلت من؟
عادت القاعة لتهتز ضاحكة على كلماته الأخيرة. وضرب القاضي كفاً بكف، وهو يحاول السيطرة على نفسه وعلى المحكمة، ومنع ضحكها المسترسل وقد فاضت عيناه دمعاً.
- لم أصادف طيلة مدة عملي متهما مثلك.
- عفواً سيدي. و لكني قتلت من؟
- هراء ما يقوله المتهم. إنه يحاول
وصمت فجأة إذ رفع القاضي يده بالإشارة المعلومة
- لا بأس. سنجاريك رغم جهلنا التام لمرادك خلف ذلك كله. إسمع جيداً لأن المحكمة تقسم لك بشرفها، وبالعدل الذي تسعى إلى إقامته، أنها لن تعيد ما ستقوله الآن مهما تظاهرت بالجهل والعبط والعته.
وكأن المتهم لم يسمعه أو أنه لم يبال بما قاله، أو تحديداً تهديده الأخير و ما رافقه من قذف، أو لأنه لم يكن يود إضاعة وقت المحكمة الثمين و وقته أيضا إذ أكله الفضول لمعرفة أسباب وقوفه بقفص الاتهام.
جحظت عينا القاضي وشخص بهما إلى المتهم دون أن يطرف له جفن، فقال:
- تهمتك أنك قتلت مرافقك.
وصمت.
- عفواً سيدي. مرافقي؟ ليس لي رفقاء!! لاشك أن في الأمر لبس.
- هراء ما يقوله المتهم. إنه يحاول خداع المحكمة. لكل منا رفيق.
- ماذا تقول في هذا الاتهام؟
- عفواً سيدي. أقسم لكم بشرف المحكمة، وبالعدل الذي تسعى إلى إقامته أنني لا أطيق أحداً. بالكاد أتحمل نفسي. لا عائلة لي و لا أقرباء. لا صديق و لا رفيق. بلغ بي النفور من الناس أني لم أعاشر امرأة أو أتزوجها. مجرد الحديث في أمر كهذا يضايقني فتصور أني تزوجت، ذاك يعني أن أجعلها في وجهي طيلة حياتي، وسنصير أربعة بعد سنة، ثلاثة في أحسن الأحوال إذا لم تضع توأماً. تصور معي ذلك. كل تلك الوجوه ستنضاف إلى حياتي في سنة واحدة.
لا، لا أستطيع. لأجل ذلك أنا أعيش بمفردي منذ زمن. يضيق صدري بالناس أجمعين، بل إنه يضيق بي أنا في مرات كثيرة. صدقوني فأنا لا أحاول خداعكم.
بنفس تلك النظرات التي لا تزحزح عنه. وبنفس ذاك الصوت الأبح قال القاضي موضحا:
- يبدو لي أنك لازلت ممعناً في غيك، وتتظاهر أنك لم تع جيداً قولي. و لكن لا بأس. لم نقصد برفيقك، صاحباً أو خدناً على النحو المعروف، رغم أن رفيقك الذي قتلت هو خدن لك وصاحب بل أكثر !!
و إني لأستغرب محاولتك التحايل علينا حين تدعي عدم فهم قصدنا، و الداعي لإقامة هذه المحاكمة بل و المحكمة كلها التي ستدينك بلا شك، و ستحدد نهايتك. غبي . معتوه.
و كأن المتهم لم يسمعه، أو أنه لم يبال بما قاله، أو تحديداً تهديده الأخير و ما رافقه من قذف، أو لأنه لم يكن يود إضاعة وقت المحكمة الثمين و وقته أيضا إذ أكله الفضول لمعرفة أسباب وقوفه بقفص الإتهام.
أشار له بسبابته والغضب يتملكه:
- أنت متهم بقتل ظلك.
انفجر ضاحكاً، و ضرب كفاً بكف. حاول الكلام بيد أنه في كل مرة تحول ضحكته المسترسلة دون ذلك، وأمضى وقتاً في محاولاته إلى أن استطاع أخيراً السيطرة على نفسه:
- عفواً سيدي. أنا لم أقتله، و إنما حلمت أني أقتله.
- بل نويت أن تقتله، و لما لم تملك الشجاعة لفعل ذلك، اضطررت إلى سلك تلك السبيل الملتوية، و اغتلته أيها المجرم بأبشع صورة.
- عفواً سيدي. لستُ مجرماً. ثم هل سأحاكم لنية ولفعل في حلم؟
- إذاً فأنت تعترف. بقي أن نعرف لمَ قتلته؟
- عفواً سيدي. رغم تحفظي على الشكل والجوهر و الاختصاص، و لكني مستعد لتوضيح الأمر.
لقد خنقني فحيثما وليت وجهي يترصدني. لا يكاد يفارقني قيد أنملة. إن مرافقته لا تضايقني، لكن الذي أعيبه عليه هو ما يحمله لي من شر مكين. إنه شرير. و لقد بلغتُ لهذا بعدما عايشته عمراً و لم أرتح منه إلا البارحة. ثم إني تساءلت:
- لماذا لا يظهر ظلي في الظلام؟ ولماذا يكون ظهوره في الضوء ماسخاً، كل مرة في هيئة وحجم. إنه بلاشك سيدي من مواطني الظلام، يتيه داخله ويقتات منه بينما يضايقه الضوء لذلك تجده يعلن ذلك أمامنا صراحة؟
سيدي، سارعوا إلى التخلص من ظلالكم الثقيلة المرهقة الشريرة. لتضعوا ذلك في نياتكم، ولتجهزوا عليها في نومكم. إنها ساعات الإنطباق التام والضعف الكامل. هنالك ستتمكنون منهم. أقتلوهم، الأشرار !!
- هراء ما يقوله المتهم. إنه يحاول خداع المحكمة. فهو لم يكتف بارتكاب جريمته الفضيعة. بل ويدعو إلى القتل جهاراً، و داخل هذا المكان المقدس، و أمامنا و نحن مقدسون. رفع القاضي يده فتوقف عن الكلام:
-هه، ما قولك في هذا؟
- عفواً سيدي. أرى أن محكمتكم باطلة زائفة. كيف تحاكمون نية مهما كانت، و جريمة حسب عرفكم في قلب حلمي؟ لو صدق ما تقولون، إذاً لهلك كل الناس. لكَم تتحرك في نفوسهم من أشياء لا يوقفها إلا الخوف من العقاب، و لكن الأحلام تنفيساً عليهم من ضيقات نفوسهم. أتقفلون هذه الفسحة أيضا؟
- إننا نريد أن نطهر كل شيء في الداخل كما في الخارج. لا نود أن تُرتكب الجرائم في السرائر كما نحاربها وندينها في الخارج. و جرائم الداخل أشد و أنكى.
لأول مرة ينتبه المتهم إلى القاضي رغم أنه بعيد عنه فبدا وجهه مألوفاً له، ثم قال:
- عفواً سيدي. كأني أعرفك !!
قاطعه وكيل الحق المدني:
- هراء ما يقوله المتهم. إنه يحاول خداع المحكمة، و تغيير مسار المحاكمة. ثم إنه...يزيغ...
التفت إليه المتهم لأول مرة، فقاطعه هو هذه المرة:
- كأني أعرفك أنت أيضاً، صوتك سيدي. عفواً. مألوف لدي، كأنه صوت القاضي وصوتي.
وأخذ يخطر في الوجوه من حوله فإذا هي ظلال تشبهه.
- عفواً سيدي. أريد محامياً يتولى الدفاع عني، لأن الأمر بدأ ينفلت من يدي.
أخذ القاضي يحك رأسه متفكراً ثم قال:
- لا جدوى من حضوره لأنني أراك خير من يدافع عنك، كما أنني أراك خير من يتصدى لمحاولاتك و هرطقاتك. وإني لأراك أيضاً خير من يحاكمك.
- عفواً سيدي. بدأ الشك يتسرب إلي من محكمتكم هذه. ماذا يعني كل هذا؟
- بكل بساطة أنك في محكمة داخلية. ألم يكن الجرم داخلياً؟ إذاً فاقبل حكمها.
- عفواً سيدي. لم أسمع يوماً عن محكمة داخلية.
- أنت القاضي والمتهم. المحامي و وكيل الحق المدني. أنت الجاني و المجني عليه. الظل والأصل. الشاهد و الشهادة. أنت كل هذه الوجوه التي ترى أمامك ويضيق صدرك بها. وكل هذه الأصوات التي تفحمك. كل واحد هنا، هو وجه القمر المحجوب دوماً، التواق إلى الاختفاء، النزاع إلى الظلمة. و التستر لا يعني العدم، بل لعله قمة الوجود.
أنت كلنا، و ما نحن إلا أجزاءك. أنت المحكمة و القضية. و قد قتلت ظلك وتعترف بذلك فارض بالحكم.
- عفواً سيدي. مادمت أنا القاضي فسأحكم على نفسي بالبراءة و تضيع العدالة المزيفة التي تبحث عنها.
- غبي أنت أيها المتهم. لا تستطيع ذلك. فاقبل حكم المحكمة.
وقف منتصبا شارد الذهن، مشتت الفكر في هذا الذي يحدث معه. لعله غارق في بحر نومه المسجر الأمواج، و طالعته هذه الكوابيس المزعجة كقدر لا مهرب منه و لا مفر، فأذعن للأمر كله، وأسُقط في يده، و أسلم قياده لعبثية صوته وأحكامه، فانطلق الصوت مسترسلاً:
- باسم القانون نشرع، و لأجل العدل نهدف، و على سبيل الحق نسعى. قررت محكمتنا الموقرة النطق بحكمها النهائي بحضور المتهم.
و بعد الإطلاع المفصل على ملف القضية، و بعد الإستماع للشهود، و الإنصات لاعتراف المتهم. قررنا إعدام المتهم، شنقاً أو خنقاً، حرقاً أو غرقاً، نبذاً أو جلداً، هماً أو غماً، صلباً أو تذويباً، رشقاً بالرصاص أو رمياً بالحجارة.
إعتلت سطح جبهته ندف العرق، و أضاف لاهثاً:
- الإعدام. و ليختر الميتة التي يرضاها، و لينفذ حكم محكمته. رفعت الجلسة.
امتدت يده إلى كأس الماء يسقي جفاف ما تراه عينه من أشياء لم يألفها، و قد رسم الفزع على وجهه وهو منتصب أمام المحققيْن يقول و عيناه على الجثة المسجاة أمامه:
- هو كما قلت لكما سيدي. لا زوجة و لا قريب، لا رفيق و لا صاحب. يعيش منفرداً منذ زمن. يظل سلامك معلقاً بينكما إذا رميته به فلا يرده عليك أبداً. يصدّك مهما حاولت التقرب منه. هو شخص إنطوائي إلى الحد الذي لا يمكن أن يتخيله عاقل.
نظر المحقق إلى زميله، ثم قال:
- يبدو أن الأمر يتعلق بانتحار.
أكد الآخر:
- و انتحار عادي أيضاً. أنظر لقد ترك ورقة أوضح فيها أسباب عمله المجنون هذا. أنصت لما كتب "باسم القانون نشرع، و لأجل العدل نهدف، و على سبيل الحق نسعى. قررت...