عناقيد من حدائق السلب
1- في الأصل كان فرعاً:
ها ذكرى وجع تلوح أعلامها المنكسة آتية من ممالك شروده و وحدته. هسيس نار صمت تستعر به و حواليه. تلسعه حرقة هجر فاجأ طفولته و خلاه و واضعته إلى غرفة تتلمس السَحَر و أنفاسهما المكتحلة بالعوز.
حين استفاقة منها ألفت رائحته تتعقبه متسللة مع آخر صولات بهيم أخرس. ما عاد غيره ذكراً تشفي فيه بقايا الأنثى التي تحتضر بداخلها، غليلها. عذبته كثيراً وجلد، و بكت طويلاً و ما هطلت مآقيه. أصرّ ألا ترى دموعه أبداً.
لأجل أبيه نادته الغادر، و صنف نمرود ناكر للجميل.
- أهديته رجلاً ففر اللعين، لكني منتقمة منكما و من كل ابن كلب مثلكما.
و كان الانتقام.
غرفة صغيرة تعصر جسداً آخر و تأوهات كل ليلة، سبع ليالٍ في الأسبوع. يتظاهر بالنوم و تتظاهر باللذة، و الجسد الدخيل دوماً به زغب و شبق.
ما عادت تخفي عنه شيئاً.
- مكرهة أنا لفعل ذلك و إلا لمتنا جوعاً و قهراً. على الأقل لم أدعك تواجه مصيرك المجهول وحدك. ستعي كل شيء عندما تكبر.
يكبر الألم معه، و يفر كما فعل أبوه من قبل. يتعقب ثورة مزيفة حتى السجن. من سوء حظه أن نهايته تمططت، و ظل حي الجسد. لم يصطفه الموت كما أبيه. سبّت أمه هجره أيضاً.
- غادر، و صنف نمرود ناكر للجميل.
حين احتضار جسده، ألقوه من المعتقل. ألفى أمه ذكرى وجع بائدة. لاشيء. عدم و رجع قديم. و رمس مقطب الذكرى.
- كنت مضطراً و لم أفر. والدي لم يفعل كذلك. ظننت أخرى أخذته منك فانتقمتِ منك. أجل، آمن بحب أكبر و خذله. لأجلها فعلنا و فشلنا. حسبنا أننا حاولنا. أحببت أن أكون كبيراً دوماً في ناظريك. أعلم أني أخذلك. حسبي أني حاولت.
تندلق من عينيه دون إرادته دمعة حرى. يهمس مطبطباً على قبرها:
- ترقدين على خير حبيبتي.
2- كل العمر خريف واحد:
ها جسد تسيح فيه الثلب و المعرات، يحتسي الكلوم و ينتخب نجيع وحدة مميتة فيثمل مصيخاً لعربدة الهجر و ينظم على طلله آخر دمع.
تهطل الأحزان كريمة في موسم الوجع و يستظل بذكراها على عتبات رمس نصف فاغر الثغر.
بخفوت و شحوب يهمس:
- أقدرٌ أنتِ؟
يرتد إليه الصمت، يتجدد أمله في أن يسمع صوتها مع هبة عتاب مرير:
- لمَ الجفاء إذاً؟
كذاك كان حبل الجفاء ممدوداً بينهما مذ عرف نفسه فيها. أفنى شيبته منتظراً. لأجل شرب نخب معها ارتاد الخمارة التي كانت ساقيتها فسقته اللامبالاة، وكم ترنح! و حتى يغنم كلمة منها شأن باقي زبنائها، استوطن المشرب الخشبي و اتخذه وكر آماله الدانية، فلم تمنحه إلا نظرة ازدراء أوّلها بتفاؤل كبير، و عدّها بداية علاقة طويلة تأخرت كثيراً. بيد أن أحلامه ثوّبت وهماً كبيراً. كما كل حياته التي رآها تخسأ أمامه.
- فليسقط الخونة. لا مجد للغربان.
لأجل شدّ عنايتها تبنى الثورة التي كانت عقيدتها. كان على أهبة إراقة آخر قطرات دمه على مذبحها بيد أنها تمنعت. ذات الوشاح الثوري الرامز أشاحت عنه بكل حواسها.
زعيم الثوار في الجامعة كان. و ثائرة على كل محاولاته للاقتراب منها. أحس أنها أحبت نشاطه و أفكاره و نضاله. أحس فقط. إحساسه كان محض تأويل متفائل. في مؤتمر أحرار العالم الذي كان أحد أقطابه و الداعين له بمعية أبناء ثورة العالم الجديد، أحبت كل الثوار، و أدارت ظهرها لعشقه المكبوت، و أعلنت رفضها له عبداً خانعاً، و أشهرت عهرها الفاضح.
رآها تضاجع شاباً أصفر و آخر أسود و أحمر، و ثورياً بألوان الطيف، و آخر بلا لون. تألم في سره و لم يضاجع سواها في أحلامه.
السجن كان انعطافاً كبيراً في حياته. كان أسيرها و سجين و طن يحترف البغاء.
كانت تعوده ُ ثَمَّ في ممالك تأويلاته تمتطي صهوات أصوات متئدة الخطو، تطرق أبواب صمته، و تربت على لياليه الكسيحة.
حين انعتاق جسده من معتقل وطن سليب، ألفاها أشهر ساقية فرابط بخمارتها يحمل أوزار وهم الثورة و المجد الموءود. لم يعترض على المنحى الذي نحته حياتها و لم يفاجأ لذلك. علم منها ـ دون كلمة منها ـ أن الثورة التهمت جيلاً آخر من الخصيان يقودهم نبي أعمى جديد. عشق أوطانها و خمارتها. كانت معبده يمارس ثَمَّ تأليهها.
كخرقة بالية عادت، لا أحد سواه يكاد يلمح تواجدها. طُردت من ليالي الخمارة إلى ليل قبر صار المنتخِب الوحيد لأمجاد نزقِ ولّى.
يزفر زفرة حرى. يستمر في صلاته، مطوحاً بآخر تعاويذه مع آخر كأس يكرعها. يضاجعها طيفاً على خدر قبرها. بلسان ثقيل يقول:
- تليلين على خير حبيبتي.
3- و الأصل بغي و بغاء:
ها جغرافيا كسيحة قدرها الغصب و نكران الأبناء، تقضم من الوجع فتكسر ضلع اشتهائها، و تقتات الحاجة فتمد يداً مبتورة لأول مارٍ يتمرغ على وحل جسدها.
صغيراً يلفي نفسه قطعة من هجين تواجدها. رأى فيها أماً بادلت حبه لها قرعاً على ناصية ألمه. كانت أول ندوبه. و معها تعلم كيف يرشف خيبة في أثر أخرى. صرخت في وجه ضعفها المقدس، و شكت ملء جوارحها هجر أمومتها.
يقع على صورة الأنثى فيها، أرته أوجه خيانة القديسات. أحبت الغرباء و قدست أجسادهم و نسلت منها خصياناً و عمياناً يرتزقون الشحاذة، و القناعة شرعهم، و فتات الموائد كل أمانيهم.
حلم بها شامخة شموخ جبال تحفها من كل جانب، و كانت غير ذلك، إرادتها كانت من صلب لتظل كما هي. لا، لا إرادة تملكها، هي ملك زمرة تبنت ضعفها المقدس، و عتت في أشكال تواجدها، و مصائر بنيها. أكلوا من يانع ثمرها و سقوا شجرها من غل أنفسهم. ضاجعوا طهرها، و دنسوا بياض أفرشتها.
حاول أن يقاوم شططهم، تبنى حبها رغماً عنه و عنها. شبّ في أسرها، لتلفظه هرماً ينتظر عيادة موت آخر له. اختزل كل تواجده بمقبرة من شظف خياله. و حيداً ألفى نفسه على قبر وطن يحتضر منذ تاريخ بعيد.
رفع نخبه عالياً، ثم قال بصوت مكسور ماسحاً بيده الأخرى دمعة حرى فرت رغماً عنه:
- نلتقي في حياة أخرى حبيبتي.
عبدالسلام المودني