المطبعجي
اقتحم الملل مكتبي المصطف مع مكتب مدير التحرير ، زاحمني بأركاني المتناثرة ، أمام النافذة ، على أرفف كتبي ، فوق مقاعدي ، استلقى على "الشازلونج " محل هندمتي لنفسي ، ألقاني خارج جدران المكتب ، تتدلى علىّ الأفكار بان أغادر العمل مبكراً ، جعلني أتسرب عبر الردهة على رأس حذائي ، أغلف وجهي بعيداً عن وجه مديري ، أزحف برحيلي على الدرج الخلفي ، الصوت القادم يقاوم هروبي ، يزحزح من قراراتي نحو سريري ، يقد قميصي من أمام رغباتي ، أدخلني مهبط رأسه ، أقترب من حواسي المخدرة بسحر الآلات ، تعلقت أعين العمال المنتشرة بمشجب حضوري ، ارتفعت الأيادي لترحابي ، نغزني تقصيري أمام أكياس العرق الممتزجة بحروف الكلمات النيئة ، تقدم نحوي كبيرهم بزيه المميز ، احتواني ببسمة سمراء كشفت عن خضار قلب وارف ، نصب يده أمامي للمصافحة :
- أهلا بك بيننا يا أستاذ .
- أهلاً (.... ).
- اسمي ( خليفة ).
- أهلاً بك " عم خليفة ".
- اليوم لحق بنا الشرف يا أستاذ.
- أشكرك .. كيف العمل معك ؟
- والله ... الحمد لله ..
- أعانكم الله ... الطقس ساخن جداً.
- نعم .. حريصون ألا يسقط العرق على الأوراق.
- أنت رئيس العمال هنا ؟
- بل هم أبنائي .
- جميل هذا التعبير .
- حضرتك تأمرنا بشيء .
- لا . فقط أردت أن أتفقد المطبعة .
- لا تقلق سويعات قليلة ، وتخرج الجريدة .
- أنا هنا فقط أتفرج يا "عم خليفة " .
- قصتك تنير الصفحة الثقافية .
- قصتي ؟!
- نعم . مختلفة بأسلوبها تماماً عن قصة الأسبوع الماضي .
- هل قرأتها ؟
- نعم . أنا هنا منذ ثلاثين سنة ، لا أطبع حرفاً إلا ...
- معقول ؟!
- نعم طباخ الحروف يا أستاذي .
- لكن كيف علمت أن الأسلوب مختلف ؟
- قصتك السابقة اتجاهك فيها جاء نفسياً ، فاختلفت اللغة فجاءت تخاطب النفس ، أما قصتك اليوم هي اجتماعية فجاء الأسلوب مباشراً .
- أين تعلمت هذا؟!
- هنا ... تعلمته هنا ...
- هل أنت متعلم ؟!
- لم أكمل دراستي الإعدادية .
- معقول هذا ؟!
- أتعلم يا أستاذ ، اختلفت الصفحات اليوم عن صفحات الزمن الماضي .
- تقصد جودة الورق ؟
- لا.لا ، ما قصدته جودة الحروف ، والتنسيق .
- كيف ... ؟!
- بالسابق كانت المطبعة هي مكتب رئيس التحرير ، يضع صورة هنا ، يحركها هناك، يدمج الأعمدة هنا ، يستطيل بها هناك ، يثني على كاتب لمقال يعجبه ؛ فيقدمه على مقاله بالصفحة الاولى، يوبخ خبر أحزنه ، يبكي لصورة طفل يتألم ...
- أكمل ...
- كنا نطبع الحروف بأيدينا حرفا حرفاً ، كنت أشارك العالم كله هنا، روسيا ، انجلترا ، مصر ، سوريا ، أشارك في تشريع القوانين ، أجلس مع"الريس " بمكتبه ، بمنزله ، كانت الأوراق تحرك الكراسى العالقة .. أما الآن ... صارت الأحرف مهجنة ، فقط نضغط الزر ، وتخرج الكلمات مستنسخة ، لا طعم لها ، هي هي ، نفس كلمات الأمس ، نختزلها بتلك الآلات ، الصور لا لون لها ، رغم أنها بالسابق كانت تطبع بالحبر الأسود ، إلا أني أراها اليوم لا روح فيها ، ترى الوجه الباسم يبتسم بالنفاق ، تجد الأيدي المتصافحة يتساقط من بينها الحقد، ولك أن أحدثك ولا حرج عن صور الموتى الممزقة بأنياب الكلاب ، وفي المقابل إعلاناً يروج سلعة من صنعهم .
- "عم خليفة" ، ما رأيك بتنسيق جريدة اليوم ؟.
- رأيي ؟!
- هل "للمطبعجي" رأي يا أستاذ ؟
- مثلك لابد وأن يكون له رأي هنا .
- انظر جريدة اليوم ، أتراها ؟
- نعم .. مابها ؟
- أنا تقريباً لا أراها ..
- ؟!!!
- لا تتعجب ، أنظر للمانشيتات ، للأعمدة ، للصور ، للإعلانات ، للبهتان ، انعدم الذوق ، الأحمر ينفر من الأصفر ، من الاخضر ، جرائد سلطة ، تفتح الشهية عندما تطبع لتُفرَد على طاولات الطعام ، عيني يا أستاذ تعودت ألا ترى إلا الذوق الرفيع .. أعتذر .. لكن ...
- لا تعتذر بل من يجب أن يعتذر هو أنا .
- بالماضي يا أستاذ ، عندما كنت أرى الجريدة بيد شخص يسير بالشارع ، على المقهى ، ، في (الأتوبيس ) أو في أي مكان ، كنت أتمنى لو أذهب إليه وأخبره بأنني من طبخها ، أشعر كأننى عثرت على جزء مني يسير على الأرض، وليس مجرد كومة أوراق بيضاء متراصة .
- أسف يا أستاذ ... عطلتك عن عملك .
ألقى إلى بجملته هذه الأخيرة ، كأنه يخبرني بأن وجودي هو الذي يعطله عن عمله ، لأنني جئت متفرجاً ، لا عضواً فعالاً بهذه الخلية كما يتمنى ، شعرت نفسي دخيلاً بهذا المكان ، بعد أن انزاحت الأنظار عني ، سحبت حضوري بنفس هدوئي ، عدت من حيث أتيت ، صعوداً بدرجات السلم الخلفي ، مروراً بالردهة ، انفتح باب مكتبي من أمامي ، لا تنزعجوا لإنزعاجي ، ليس الملل هو من أزاح الباب الموصود كما تعتقدون ، قد كان مديري هو نازع الباب ، عائداً من رحلة بحث عني بين أشيائي :
- أين كنت ؟!
- كنت عند رئيس التحرير .
- لكني بحثت عنك هناك .
- في المرات القادمة أرجو أن تبحث عني جيداً .
محمد سامي البوهي