الحوار الرقميمنهم من سماه الدردشة الإلكترونية، ومنهم من استورد الكلمة الغربية كما وردت في قاموس المعلوميات "تشات"، وآخرون مازالوا يبحثون عن مصطلح. غير أن كلمة حوار تعطي معنى شاملا للتواصل بين شخصين أو أكثر؛ كتابة أو مكالمة صوتية أو تبادل ملفات وصور أو مشاهدة بينية في الزمن الحقيقي. فالحوار عبارة عن تبادل رموز تحمل معان. وحركية التبادل تقتضي أن يتفاعل المستقبِل مع ما يفد عليه من طرف المرسِل إما بالإقرار أو بالرفض أو لاستفهام أو طلب الاسترسال من فيض المعلومات أو الاعتراض... وكل هذه الحركات التفاعلية تصدر عن شخص واع يدرك دلالة ما يشاهده أو يقرأه على الشاشة أو يسمعه من ألفاظ مفهومة؛ بنفس الطريقة التي يتعامل بها مع الكلام في لغة يفهمها ويمتلك وسائل التخاطب فيها مع من يحدثونه في الواقع . من هنا يبدو أن الشخص المحاوَر يُكوّن صورة ذهنية لمن يحاوره، يبني عناصرها على المعطيات التي وصلت من المحاور –كما يفهمها من سياق الحديث- بكل ما تحتمله من تدرج بين الصدق والكذب، ثم يردّ عليها بما يراه مناسبا من مخرجات تؤول بدورها إلى معطيات متى وصلت إلى حس المرسل الذي ينتظر الردّ، حيث تنشأ لدى هذا الأخير عناصر لصورة لحظية ذهنية لمن معه على الخط... ويكون في هذه الحالة مثَلُ الوسط الإلكتروني الحامل للمعلومات والإشارات والرموز، كمثلِ قاعة في بيت اجتمع فيها غريبان أو أكثر، تولدت بينهما علاقة تعارف تكسوها المجاملات ويطبعها النظاهر بصفات قد لا تمت للواقع بأية صلة، وقد تكون من المصداقية بحيث تبنى عليها علاقات وروابط أمتن من قرابة الدم.
وبظهور غرف المحادثة) Conference rooms ( التي سماها المنتج "قاعات للاجتماعات" اتضحت معالم آداب الاجتماع للشلل التي ترتاد تلك الغرف في تباين مبهر بين من يستغلون التقنية الحديثة لشؤون مهمة نافعة كالتدريس وتبادل الخبرات بمجالات التجارة والاقتصاد، وفنون التعبير اللفظي من نصوص أدبية وشعر ومناقشات علمية، ومن يقضون الوقت في تبادل الشتائم وإثارة الغوغاء... ولم لا فالأسماء المستعارة لا تكلف شيئا، وإدارة الغرفة والتحكم في وقائع الجلسات ليست أكثر من حرف (@) أمام اسم مدير الغرفة والتصرفات مزاجية لا تخضع لمنطق ولا لأي مبدإ أخلاقي أو شرط محدد؛ قد تدخل غرفة (س) وتلقي التحية باللغة المتداولة فيرد عليك أحدهم أو مديرهم بعبارة نابية، لأنه ضامن لاختفائه خلف منظومة الشبكة تحت اسم لا يعرفه به أحد، وقد تجد شخصا آخر يوهمك أنه أحق بالتقدير والاحترام لما يبدي لك من جدية في الحديث، تربطكما صلة رقمية فتركن إلى نوع من الاطمئنان وتنسج على ما تتبادلانه من حوارات صورة صادقة للمعاملة الجادة يمكن أن تنجم عنها التزامات جسيمة تجاه محيطك الواقعي، حتى إذا ما جاء وقت تنفيذ ما دار بينكما من وعود، تبخر ذلك الشخص وأوقعك في أزمة كنت في غنى عن التفكير في حل مثلها ! والسؤال الذي يطرح نفسه هو : كيف يقضي الشخص الساعات أمام الآلة لمجرد نسج الأكاذيب وترويجها ويحبك القصص وكل ما يمكن أن يساق لإقناع غيره بأنه جاد في معاملته وهو يعلم مسبقا أن كل ذلك كلام في الأثير؟ يدفع مالا لموفر خدمة الاتصال ويضيع وقتا ويبذل جهدا من أجل التعبير عن تفاهته ! لعل هذه الظاهرة وليدة العصر أم أنها كانت موجودة في تصرفات البشر تمارس في الخفاء، ولما جاء هذا العصر برزت في وضوح للعيان معلنة عما بالنفوس من حقارة وسوء خلق؟!
بينما نجد في الجانب المقابل علماء ودارسين وباحثين من كل الجنسيات والملل يأخذون بأسباب هذه التقنية الحديثة ويسخرونها في سبل المعرفة ويركبون نتائجها للرقي بالفكر وإثراء الإرث البشري؛ ملتزمين المصداقية والجد في كل تصرفاتهم سواء على الشبكة أو في واقع الحال. وهؤلاء يكابدون معاناة مما تطرحه الشلة السيئة من غش وتزوير واختراق للمواقع على الشبكة. وقد تخصصت فئة من الباحثين في دراسة الأساليب الرادعة وما زالت تبحث عن وسائل تقنين العالم الرقمي لضبط المخالفين وإيقاع الجزاءات بالمتلاعبين وزمر الغش والعبث.
كان الناس في ما مضى من عهود، يفكرون في الحريات الشخصية ويلومون الأجهزة الأمنية التي تسلطها الحكومات على الرقاب! واتسع هامش الحريات على أرض الواقع نسبيا، فلما ظهر العالم الرقمي، لم يفرض قيودا على من يرتادونه، فهم أحرار في اختيار الأسماء والهويات واللغات والمعتقدات وهم أحرار للدخول متى يشاءون إلى الشبكة وتداول ما يريدون من كلام مع غيرهم من سكان العالم الافتراضي ... أليست هذه سمات الحرية المطلقة ؟ ماذا فعلوا بحريتهم وكيف تصرفوا مع أشباههم في محيط لا يلزمهم بتعاليم دينية ولا بنواه وأوامر قانونية؟
---------------- يتبع إن شاء الله -------------------