أحلام نارية.. بقلم محمد إبراهيم محروس .
لم أكن أدرى أين الطريق ، ولم تكن ملامح الغربة داخلي قد وصلت بى إلى مرحلة التشبع .
كنت شغوفا جداً بتلك البلد الأوربي الذي نزلتُ ضيفاً عليها منذ خمس سنوات.. قدمتُ إليها .. كنتُ فاتح ذراعي لأحتضان كل جديد في هذه الأرض .. وكانت الحياة في تلك البلد باردة ببرودة جوها القارص.. لكنى تعلمت كيف أمنح الدفء للمكان الذي أتواجد به.. يقولون إنني مكوك متحرك .. من يقترب منى يحترق .. مجنون بذاتي..
ليكن ..
منذ ثلاث سنوات كان يجب أن تظهر هي في حياتي بالطبع.. كان يجب.. وكأي مغترب يبحث عن ونيس كان لابد من وجودها .. جرمين.. فتاة متوسطة الجمال، طويلة القامة لحد مزعج ، ذات جلد شاحب ملتصق بعظامها .. عينان واسعتان جاحظتان دوماً.. جبهة عريضة وشعر مقصوص بعناية وبطريقة غريبة ..
فتاة غربية كان لابد أن تتواجد حياتي هنا .. هذا ليس شيئا يدعو للتساؤل !.
أي شخص في مكاني يبحث دوماً عن فتاة أجنبية.. وكانت جرمين ..
جرمين ولدتْ من أب تركي وأم يونانية .. لا أعرف كيف اجتمع هذان الطرفان .. ولكن هذا ماحدث ونتج عن تجمعهما جرمين ..
لا أعرف متى وكيف بدأت أميل لجرمين..
كانت حياتي منذ مجيئي تمضى على وتيرة واحدة .. الاستيقاظ مبكراً جداً لدرجة رهيبة، والنوم مبكراً جداً لدرجة مدهشة..
كانت لحظات استيقاظي تشبه لحظات المحكوم عليه بالإعدام عندما يسمع خطوات في الطريق إلى غرفته..
أقوم مفزوعاً على رنات المنبه .. أدعك عيني .. أتناول ما تبقى في كوب الماء الذي بجواري، وأحاول أن أبلل شفتي منه، ولكنني أكتشف أنني جرعته دفعة واحدة من قبل ..هذا الكوب الذي أضعه دائما بجواري قبل النوم ..أعرف تلك العادة الغريبة في .. الاستيقاظ بغتة وجرع كوب الماء كاملاً، ثم السقوط في النوم مرة أخرى بغتة.. الويل لي إذا نسيت أن أملأ كوب الماء.. وقتها لا أجد مفراً من القيام من السرير والذهاب إلى المطبخ كي أتجرع دفعات من المياه عبر الصنبور مباشرة.. افتح المياه على آخرها وأشعر باصطدام المياه بفمي ووجهي وربما أغرقت ثيابي .. عادة أخرى مميتة في هذا البرد الرهيب .. أشعر بأن حلقى يحترق ، ولكنى فلاح تعود الشرب فيما مضى من طلمبة المياه العمومية لفترات طويلة ؛ لذا كان اصطدام الماء بفمي ووجهي له شعور خاص رهيب .. ولكن بعدها يذهب النوم بلا عودة .. وانتظر لحظات القلق الرهيب تعصف بكياني، كي تأتى رنات المنبه مزعجة فأهب لألحق أول مترو.
مكان عملي يبعد عن السكن ساعتين؛ لذا كان استيقاظي لابد أن يكون قبل ميعاد العمل بثلاث ساعات كاملة، حتى أكون منضبطا في الميعاد.. هنا لا يرحمون.
صباح آخر سيأتي ، ستصل جرمين اليوم .. كان استيقاظي قد تم بصورة رهيبة لقد نسيت كوب الماء، كنتُ مشغولاً بالتفكير في جرمين.. اللعنة !
أكاد أجن وأنا أحاول أن أترجي النوم مرة أخري أن يأتي .. ولكن كالعادة أعرف أن هذا مستحيل الآن.. ليكن ..
أمامي ساعتان لأفتح جهاز الكمبيوتر وأدخل على الميل.. ربما أتت لي رسالة من سلوى ..
سلوى تلك الفتاة اللبنانية التي شغفتُ بها حباً، والتي قابلتها منذ خمس سنوات هنا.. سنتان تفرق بينها وبين معرفتي بجرمين ..كانت سلوى قد أتت في منحة دراسية ، لكنها لم تتحمل الغربة ، وقررت العودة للبنان حيث تشعر بالدفء ، حتى وهى بين أحضاني كانت تقول :-لا أشعر بالدفء هنا ، الأحاسيس هنا ممطوطة وزائفة .
سلوى تختلف تماما عن جرمين .. تميل إلى القصر نوعاً ما، عيناها ضيقتان، ولكنك لا تشبع منهما، تشعر كأنك تغوص داخل بحر رهيب، شعرها يصل لمنتصف ظهرها، وردية الملامح والجسد.. ولكن لكل منهما لحظات خاصة ومذاقات مختلفة وخاصة في حياتي .. لم تنقطع الرسائل بينى وبين سلوى ، بريد عادى وبريد الكتروني منذ عادت إلى لبنان ..أربع سنوات مضت بكل همومها .. وظهرت جرمين بعد سنة من غياب سلوى.. كنت أحتاج لها وقتذاك..عادتْ سلوى قبل أن أتعرف على جرمين بسنة.. مللت لعبة السنوات .. ها هو الماسينجر يفتح أمامي .. تسجيل دخول .للحظات. ..
هناك رأفت وعلاء.. منذ مدة أريد أن..لا يهم الآن .. هذان الشخصان المقيمان في فرنسيا ..
لا أريد أن أكلم أحداً منهما .. سأضع علامة مشغولاً.. كلا . . ربما أتت سلوى ورأت أنني مشغول فلن تكلمني وقتها تعتز بخصوصياتي دوما.. ها هو علاء يعطيني إشارة تنبيه.. اللعنة .. هل أتجاهله ؟.
- السلام عليكم
- وعليكم السلام
- أزيك يا فؤاد ؟.
- أهلا علاء .. الحمد لله .
- مالك ؟
- لا شيء
- ولكنى أشعر أن لهجتك يشوبها شيء من عدم الارتياح .
- لا .. لا شيء
- كوب الماء كالعادة ، لا أراك في هذا الوقت إلا لو نسيت كوب الماء .
- ---ها ها ها .
- المشكلة أنك تشعر بالفراغ بعد سفر جرمين.
نسيت أن أقول لك أن علاء ليس بشخص تعرفته على النت، بل هو جوال ، رحال تعرفت عليه هنا ، قبل أن يغادر تلك البلد ، ليبحث عن نفسه في مكان آخر .. يقضى كثيراً من الساعات على النت .. ويقضى الكثير من الوقت في الترحال، لا تعجبه أي أرض تستقر عليها قدماه.. دوما يبحث عن أرض أخرى في خياله هو..يستخدم كمبيوتر خاص متصل دوماً بالقمر الصناعي ،أربعة وعشرون ساعة هو أون لاين !.
أشارة تنبيه أخرى.
- إلى أين ذهبت يا فؤاد ؟!.
اللعنة!
- أنا هنا ولكنى لم استيقظ بعد الاستيقاظ الكامل.
- ألم تتصل بك جرمين بعد ؟
لماذا يحشر نفسه هذا المتسلط نفسه دائما في خصوصياتي .. نعم أنه هو من عرفني بها، لكن هذا لا يعطيه الحق للتدخل دوما في علاقتي بها، سوف أقفل الجهاز.
ولكنه قال بغتة:
- لقد اتصلت بى اليوم، وهى ترغب أن تنهى العلاقة التي بينكما .
أجبته في استفزاز:
- ولماذا تبلغني أنت بهذا ؟!..أليس لها لسان كي تخبرني هي ؟ ولماذا لم تقل هي أي شيء مما تقول أنت ؟!.
- همم
أسلوبه المستفز كالعادة ، وجدت نفسي أقول :
- لا تهمهم يا رجل وقل .. الوقت يمضى .
- لن تعود اليوم .
- إن شاء الله ما عادت .
- ألا تهتم ؟.غريب !.
- أرجوك يا علاء اتركني وحدي الآن.
- لكن رأفت يرغب في محادثتك .
- كلا.
- أعرف أن علاقتكما شائكة ، لكنه يرغب في الاعتذار لك .
- كلا
- ألاّ تنسى ؟!.
- أنت تعرفني أنا لا أنسى قط.
- ولكنه آسف فعلا .
- ليكن لا وقت الآن لهذه الترهات.. مع السلامة .
- انتظر يا فؤاد .
- مع السلامة .
- ثواني.
- مع السلامة .
- يا رجل .
- مع السلامة .
أغلقتُ الجهاز، وأنا ازداد غضباً على غضب.
لماذا تقول له جرمين ما قالتْ، إن حدث هذا ؟!.
منذ يومين اتصلت بي ولم تقل شيئا عن قطع العلاقة أو ما شابه، بل وصفتْ لي رحلتها ،وكيف استمتعت بها.. هل علاء يريد أن يدخلني في دوامة أنا في غنى عنها الآن، وفى صباح كهذا؟!.. اللعنة !.
تختفي سلوى منذ فترة.. ثلاث شهور ولم أسمع عنها شيئاً..ورأفت مصمم أن يكون له ضلع في الموضوع.. قال: إنه يعرف سلوى قبلي بسنوات ،وأنه كان سبباً مباشراً في معرفتي بها وتوطئة أقدام الصداقة والحب بيننا بسببه.
لماذا الجميع يتدخل في حياتي بهذه الصورة ..
علاء سبب معرفتي بجرمين .
ورأفت سبب معرفتي بسلوى .
وأنا ألستُ سبباً لأي شيء.. هل حياتي مرتبطة فقط بهم ..عجبا !..
يا لها من طريقة لارتباط أشخاص مثلنا !.
رأفت فلسطيني، سلوى لبنانية، جرمين خليط عجيب تركي يوناني، علاء سوري من أم مصرية..
خليط عجيب ارتبطتْ حياتي به، لسنوات هنا، ولسنوات بعد سفرهم..
ما زالتْ حياتي كعقدة يستحيل فكها دون الاصطدام بهؤلاء.
شيء عجيب يحدث لي .. رنين المنبه أتي ملحاً مزعجاً .
كنت ما زلتُ أحدق في شاشة الكمبيوتر أمامي.. فقمتُ مسرعاً ، دخلتُ الحمام ، دشا سريعا لأفيق .. مترنح إلى الصالة ومنها لغرفة نومي.. أرتدى ملابسي بهدوء ورغم قلقي .
دائما أحاول أن أرتدي ملابسي بهدوء.. أتطلع إلى شكلي في المرآة ..
يبدو الشحوب على وجهي .. ولكنني ما زلتُ أحتفظ بوسامتي المعهودة ..
محطة المترو تبعد عن مسكني عشر دقائق ..آخذهما مشيا وأنا أحكم ياقة معطفي على رقبتي بشدة..
كان هناك فتيات عائدات إلى بيوتهن بعد قضاء جزءًا من الليل الذي من ينقض كله بعد في بيوت أصدقائهن ، بعضهن ابتسمن لي ، هناك نوع من العلاقة الغير مفهومة تربطني بهن، تعود رؤيتهن في هذا الصباح الباكر وقد ذهب الخمر بعقولهن.. رأتني جاكلين.. ابتسمتُ محيياً وهى تميل على أذن جارتها ، ابتسمتُ في خجل والضحكات تتعالى.. بالطبع تهمس لجارتها بفشلي ، تذكرت كيف تعرفت بها أول مرة في محطة المترو ،كان يوما كهذا، وفشلتُ، وفشلتُ في اللحاق بالمترو، فكنتُ أصرخ في المحطة كالمجنون ، وصرتُ فرجة !,
ولكنها أقبلتْ ناحيتي، وراحتْ تهدئ فيّ ، حتى توقف السباب من السيل من فمى .. بالتأكيد تحكى لصديقتها عن فشلي يومها للحاق بالمترو ..اللعنة !.
تجنبتُ النظرات المختلسة الفضولية من صديقتها وأنا أبتعد ، وأبتعد .
هناك كساحة جليد تزيل الجليد من أمام فيلا منير الطاغوتى .. اسم غريب !.
منير هذا يقولون :إنه يتاجر في كل شيء بدءًا من السموم البيضاء إلى اللحوم البيضاء والحمراء ، شبكة كاملة من المخدرات والدعارة ترتبط باسم الطاغوتي ..
منظر فيلته يلفت الأنظار دوما ، هناك حارسان لا يفارقان بوابتها قط .
إنه عالم غريب لم أدخله ، ولا أظن أنني أدخله يوما ما .. حضرت فى مرة حفلة مع رأفت هنا .. يا لها من حفلة ..اللعنة !
رأفت هذا يذكرني بأشياء كثيرة أرغب في نسينها .
علاء أيضا يعرف عن الطاغوتى أشياء وأشياء ، كثيراً ما حدثني عنه .
قال لي مرة : - الطاغوتى رمز هنا .. رمز لكل ناجح ..
ويا له من رمز .. الطاغوتى حكايته معروفة ، تاجر سلاح قذر تحول إلى تاجر مخدرات عندما ازدهرت أحوالها ،ثم تحول إلى تجارة أخري أشد بشاعة .. تجارة الرقيق الأبيض .. يجلب من الفلبين وماليزيا أطفالاً ونساء يبيعهم هنا ..هنا وطن من لا وطن له ..بل هنا لا وطن لمن لا وطن له .
الطاغوتى وفيلته .. رمز بلا وطن ، ووطن بلا رمز .
كانت الكاسحة تزيل الجليد وخطواتي تحفر طريقاً لها في اتجاه محطة المترو ..
وكلمات كثيرة تتردد في داخلي .. علاء ، رأفت ، سلوى ، جرمين ، الطاغوتى .. المترو ..
وطن بلا وطن .. وأرض بلا أبناء .. وأحلام نارية فى الطريق .. وأخذت أفكاري تتباعد وتتباعد ، وبلا مرفأ .