لم تحظَ رسالتي الأخيرةُ إليها باهتمامها المعهودِ فمرتْ عليها مرور الضيف على حين عجالةٍ مما أسرَ فكري ،وحيّر بالي وجعلني أخطُّ لها هذه الرسالةَ .
أديبتي...
ما عهدتكِ سريعةََ الظَّعْنِ عن مقَرِّ حروفي ،مُدْبرةً عنها إدبارَ الخَلِيِّ ،معرضة ً إعراضَ القالي ،متنحِّيةً تنحيَّ الهاربِ ..وكأنَّها لم تَمَسَّ منكِ إحساساً حيَّاً ،ولم تُخالجْ مَكْمنَ مشاعرِك ،ولم تقْرَعْ بابَ قلبِك منتظرةً إذناً بالدخول ِ المعهود..فرحَّبْتِ بها ترحيباً أشْبَهَ بكريّاتِ الصّقيع ِ المتدحْرجةِ على بتَلاتِ التوتِ الغليظة،فلا شمسَ تحركُ الحياةَ فيها ،ولا روحَ منها تهبُها حيويةَ الحركةِ ،والأمر ُ –كما يبدو-وقْعٌ متلاحِقٌ مِنْ سِهامكِ الباردةِ على ماتبقَّّى لي من صبرٍ نافذ ،وما كفاكِ اضطِرامُ نارِ حبك في جوانب قلبي حتى تستعملي في تعذيبي كلَّ مفردات الأضداد ..فبنار الغيرة تُحرقين ،وبثلج الصمت والتجاهل تُكْملين ،وكأنكِ على نية جمع الفصول كلِّها في دائرة تعذيبي .
انظري إلى رسالتي الأخيرة كيف رُدَّ بصرُها خاسئا حسيراً،حين غاب عنها اهتمامُك فسُقِطَ في يديها ،وأحسَّتْ لأولِ مرةٍ منك خُذلاناً جائراً لم يكن يوما على ظنٍّ ولا حسبان ..فللهِ ما أصعبَ مفاجأةَ الحرمان !وما أعتى وأشدَّ السقوطَ مِنْ أعلى مكان!وما أقسى الحبَّ حينما يباغِتكَ تغيُّرُهُ من صديق إلى عدوّ ،ومن راحمٍ إلى معذبٍ!.
هلا سألتِ نفسَك ِ–أيتها الأديبة الكبيرة-ما نوع تلك الحروف التي أخُطُّها لك؟ألم تعلمي أن للحرف حياةً من حياة كاتبِهِ تَسري فيه من النفخةِ الأولى ليكونَ النسخةَ الثانيةَ من قلبه المحب العاشق!فإذا حمله الرِّقُّ كاد يقفزُ من بين أرْوِقتِه ليستقرَّ في حضن الحبيب إلى الأبد!..ولو سألتِ نفسكِ لَمَا وَسِعها إلا الإقرارُ والإذعانُ بأنّ كلَّ حرفٍ هنا خاطبَكِ بكل لغات العالم ،وكاشفك بسرّه فسرَى الخبرُ بين حناياكِ يعلن التفردَ في ذلك الحب ،كما أعلن التفردَ في ذات مَنْ يهوى.
كان لك مع رسائلي مراودةُ الاختلاسِ ،واختلاسُ المراودة ،فكثيرا ما أستحضرُ مقامك عندها كالقاطن في فيْءِ الهجيرِ إذ لاحتْ له جنة غناء ،وأمرُّ بها مستشعرا مرورَك الدائم عليها وكأنها تنبيك كلَّ يوم بجديد ،وتقفُ بك على رسالةٍ لكل حرف فيها عن حديث قلبي لك ،وبثّه بين يديك..فأرْجِعُ من الزيارة فرِحا توّاقا ،ليأخذَني حضورُك ثانيةً إليها ولِها مشتاقا ،وهكذا أصحو وأغفو على حضورك ومرورك وحُسنِ تعهُّدكِ لها.
أديبتي...يا سماءَ الحرف الماطر على بُورِ أرضي ما يَصُدُّ عنها جدبَها ،ويا رمزا بين الأعلام طالما فخرتُ بقربه وجواره ،ويا مَغْنى الربيع أتبتّل في محراب خضرته مادحا وواصفا،وبيني وبين نفسي محبا عاشقا...لا تحوِجيني إلى غربة الروح في قطع حبل أُنسها ،وأنتِ الروح لا محالة فمن أين أستجدي أنسها وهي غائبة!!ولا تضطريني إلى وحشة اليأس في تجاهل حديثي معك ،والصد عن قلبي الماثل أمامك على صفحة الرسالة الشارحة..أيرضيك –أديبتي-تمزيق أوارقي ..رسائلي ..بعد تمزيقها على يدي هجرانك وصدك!
ماكان هذا عتابا بقدر ماهو تحايلُ طفلٍ على حِجْرِ أمه وقد صار عنه مشغولا...أُحبكِ.