كانت الساعة الثانية عشرة ظهراً في الشهر السابع ميلادياً وقت احتدم العراك وأنا بينهما كالساقط في بئر لن يسمع قرارها رامٍ. ابن سيرين صامت، ومصطفى محمود يتحدث بصوت عال..
حقَّ هروبي من المواجهة، فأغلقت الكراسة. تحركت بعدها كبليد قديم، لكن هي أقل من دقائق واضطربت خطواتي في البيت. سألتني أمي عن شيء ما فأجبتها بجفاء: واهاً. كيف تحدِّثني والرجلان يربو زعيقهما كقنبلة مزمنة. هلا صمتت فأدرسَ مدى خسائري التي كانت وكم جدارٍ انهدَّ... .....، ندمت لجفائي سالفاً، ولكني لم أزل مضطرباً. ولجت الحجرة كحركة متقطِّعة يزيدها الزعيق ارتعاشاً متشائماً.. أمْسَكْتُ الكَرَّاسة.. عصبيَّتي بغير قرارٍ، ولا إرادتي خطوة هنا. . . . ثم هنا خطوة، والكراسة كبطة فَرَكَتْهَا سيارتا ذراعي فزادني تكسُّرُها تَكَسُّراً وعصبيَّةً اتخَذَتْ قراراً عصبياً بأن تَخْنُقَ تلك البطَّةَ الصَّيَّاحة بين كتب الخزانة، واعتقدت أن الحَلَّ ضحك لي، ولكن بدا أن حَرَّ الخزانة كان أدْعَى إزهاق النفوس فاحتدمتْ المعركة زيادة الحَرُّ.
ولم أنتظر أن أسمع خبرهما، فشققت طريقي من باب الحجرة، وعامَلَتْنِي صفْرَتُهُ بإزعاج. عانقتني البوابة الحمراء كمطارَِدة بوليسيِّة، لكنني انفلت. كانت الساعة الثانية عشرة والربع، والظهيرة امرأة عانس أُمِّرَتْ: تفتقت عن حقد جهنمي ومكبوتات صفراء، لم يكن يشبع شهوتها أن تتزوج ألف بشري في وقت واحد، وقد تؤدي ساديتها الجنسية إلى موت مضاجعها، فيا للقرف منها: تغري بصفرة وسخونة، وتلتذ بأزواجها على أَسَرَّة العَرَقِ مُلَطَّخَةً بتراب السيارات والسيارة. واندهشت لأنها لم تُغْرِنِي، أو هي أَغْرَتْنِي ولم يستجب لها جسمي حتى ولو بخيط يتيم من سرير العرق، ولا قرب التراب من رغبتي الغائبة عن الوعي.
يا إلهي..! الوقت الفرد في حياتي الذي احتجت فيه إلى شكَّات كلابِها الضوئيِّةِ.!... وي! إنها المرأة تَقَلُّبٌ جَبْرِيٌّ لا يحدُّه حتَّى هي.
سرت طريقاً زراعياً طويلاً تلاحقني فيه أعين أعرفها.. هربت مني جدليَّاتُ سُقْرَاطَ، أو اكتشفت -لأول مرة- أن أفلاطون كان حكَّاء فاشلاً لم يذكر أية "معروفة" عن حركات عَيْنَيْ سقراط وهو يقنع -في الغالب- بلا شيء، أما أنا فكان عندي أشياء، ولكن يخرب بيتك أيها الأفلاطون الشَّاذُّ. وأنا سائر حاولت أن أشغل نفسي بأي حديث بعيد.. حتى لقد شتمت تلك المرأة المفاجئة البرود معي و...... و..... عزيت بصوت أظُنُّهُ لم يكن واضحاً أو فليكن؛ ليس من فارق مهماً؛ فقد صرت بعيداً عن العمران ولا أحد، فعزيت تلك الفتاة التي سأتزوجها ذات يوم فهي لن تصبر مطلقاً.. وكيف؟! هل تُكْرِمُ ضيوفِي وتُغَذِّي حَيَوَانَاتِي وتزرع غاباتي؟ وهل يجب عليّ أن تفعل ذلك معي؟ آه.. يضجرني أن تعتقد فِيَّ ذلك التعاون المرهق ولو شهراً. ولكن يبعد جداً أن تتحمل فتاة –"حامل" تحت بَشْرَتِهَا بحضارة واحد وعشرين قرناً- قسطاً من عناءاتي ؟ وما يجبرها؟! أنا متأكد من أنها لن تتحمَّلَ، ولأني أحترم النساء فلن ألومها أبداً.. بالله لن ألومها أبداً إذا أرادت الانفصال...... . . .. . .. .. . . . .
نعم، لقد شغلني ذلك الحديث طويلاً؛ فقد أحسَسْتُ أن من واجبي أن أعزِّيَ تلك الفتاة بإخلاصٍ، وألا أجرح مشاعرها ونحن ننفصل: لقد ساعدتها في إعداد حقائبها، وكان في جيْبِي –وقتها- أسطوانة مسجل عليها وداعٌ رفيقٌ بصوتي (وهذه هي أهم سماتي: الرفق) استعداداً لموقف مثل هذا.
كان الموقف جد حرج، لكن بدا لي أنها اقتنعت بمنطقي السقراطِيِّ؛ وبرهاني أنها لم تراجعْني في كلمة قلتُها. وقبل أن أنهي الحديث أهديتها الأسطوانة بصنعة لطافة، وقد أدهشني أنها همَّتْ بأن تحمِلَ الحقائب.. حقيقة هي اعتادت ذلك، لكن الموقف مختلف، ولابد أن أساعدها في وقت فجيعتها؛ ولذا حلفت لها بالطلاق من أية امرأة قد تدخل حياتي ثانية بأني الذي سيحمل الحقائب.. وكلها، وأقنعتها بمنطق سهل. ونزلنا.. هي أمامي. كانت الحقائب كثيرة وثقيلة لدرجة أنني فكرت أن أسألها المساعدة، ولكني هبْت أن تظنَّنِي قليل الذوق، فتحاملت على نفسي.. أحكمت ربط الحقائب فوق التاكسي.. ركبت هي، ووقَفْتُ أنا أُفَكِّرُ: هل من الواجب عليّ اجتماعياً أن أرافقها إلى بيت أبيها. وبعد مناقشة ساخنة بيني وبيني أقنعتُني بمرافقتها. وأنا أقفل باب السيارة كان إحساسي بقربـ(ـهما) يزداد فزعقت في قفا السائق أن بأقصى سرعة، وليس أزيد من وقت قصير جداً جداً وكانا يتغلغلان في عيني وأربعة عيونهما كنكات قهوة تفور، وليست تنطفئ نار المشاعل. أجبراني أن آمر السائق بالوقوف.. ونزلت من إلى جانبها معقود اللسان. قالت هي للسائق: تابع يا "أسطى". حقاً ليست طيبة إلى درجة توقَّعْتُها إذ إنها تركتني وحدي والرجلين بعيدين عن العمران ولا أحد. حاججتهما بأن حلولي ضعيفة، وأني لن أجبرهما على البقاء، وسوف أغلق هذا النص إلى الأبد فحدودي كإنسان طبعيّ صارت صعبة الوضوح حتى أني لم أرزق بقطرة عرق واحدة، ولا تَفَاعُلَ للشمس معي، والأراضي من حولي مشفرة.. نبهتني رطوبة خضرتها لحظة.. ثم لا أثر لها. أخْبِرَانِي كَمْ قطعتما لتلحقا بي أيُّها الأبوان الساخطان؟.. سبعة كيلو مترات؟.. ثمانية؟.. تسعة. كيف وجدتماني إذن؟.. منتحراً؟.. لم الصمت؟ هل انتحرت إذن؟ اقرصاني لعلي أسترجع حضوري أتعتقدان أني سأكون بخير... ... .. . آه أول مرة أُتْعِبُ فيها المَشْيَ فَيَيْْأَس من إتعابي، أم إن ذلك يؤكد حادثة انتحاري أجيباني. أنتما جعلتماني أعامل زوجتي بمنتهى الجفاء، كانت ستعاتبني في منتصف الطريق فأعترف لها باحتياجي إليها، ونقضي سهرة الخميس معاً كأي زوجين. ولكنكما أنزلتماني فقضى آخر أمل لي في أن أعيش كإنسان من لحمٍ وَدَمٍ!
آه يا ربي هل أكمل حياتي منذ الآن كحلم مشلول..!
- .. رويدك يا صاحب العقوبة المتشرد؛ فقد حللنا الموقف.
- ماذا..!
-
-
- وبعدُ فلنرجع إلى البيت، ولتنزع نعليك حتى تتأكد من أنك لم تنتحر حتى الآن.
<<تذكر جيداً ذلك الحل.>>
يا للتفاعل.. أَمْلَيَانِي شعوراً بإغراءات المرأة العانس حتى لتوقعت ضربة شمس لا مَفَرَّ، وعلى سرير من العرق المتدفق منِّي كنشوة انعتاق انتظرَتني : أعدت عجينة التراب ولكن تدفقاً من فيض تصوراتي كأنما حملني إلى البيت في غفوة منها. في البيت أحضرت الكراسة من الخزانة وبدَأتُ النَفْخَ:
....................................... .... ......... ....... .......... ....... ... ... . .