تيار الوعي
حكاية مدرسية
بقلم: عبد الواحد الأنصاري
ليس حرا على الإطلاق:
في الفصول الدراسية المتوسطة ثم المتقدمة، ينساب تيار الوعي على طاولة الدرس. كنا نكتب عن أشياء لا نتذكرها، تتدفق أسفل حواسّنا، وتنطلق بحريّة عشوائيّة، غير أنها مع طول الوقت والمراس لا تلبث أن تمتلك صياغات نمطيّة مكرورة، فتجد طالبا مولعا بالنقش، وآخرَ مولعاً بتسطير صفحات دفتره، وآخر مولعا بإحداث حفرة يركز فيها القلم. وآخرين يصغون، ولكنهم يفكرون وتجدهم موجودين في أماكن أخرى. المهم أن هذا التيار مهما بلغت عشوائيّته يظلّ تيارا يمتلك صفاتٍ محدّدة لدى كل شخص بعينه، وسماتٍ قابلة للتعقب، بل لتحديد الوجهة.
أسئلة وتطبيقات:
لا يكاد تيار الوعي في عالم السرد يخطر لنا حتى تبزغ أمامنا شخصيات تيارات الوعي، بدءاً من الراوي العليم في آنا كارنينا تولستوي، ومن بعده صوت ضمير راسكولينكوف في الجريمة والعقاب لدى ديستوفسكي، لكن لا شيء يحدث بالصيغة الحرّة الشعرية كما لدى هملت شيكسبير، الذي يلخصه محفوظ في ثرثرة فوق الليل بعبارة وحيدة (السيّد المهتضم أنيس). لكن هل هناك فصول مستقلّة يتدفق فيها تيار الوعي الحرّ؟ وما علاقة تيار الوعي الحرّ بإيقاع النص، تسريعه أو تبطئته؟ وهل تيار الوعي هو بالضرورة مونولوج عاطفي تعبيري عشوائي بالضرورة؟
تعالوا بنا إلى أقوى شخصيات تدفق تيار الوعي على الإطلاق: بنجامين الصخب والعنف، لدى الأمريكي وليم فوكنر (نوبل 49)، وهو البطل الوحيد الذي يمثل واقع وعيه الخارجي الخط نفسه لواقع تيار وعيه الداخلي، ويمكننا توضيح هذا المعنى برسم تطبيقي لشكل تياري الوعي الداخلي والخارجي لبنجامين الصخب والعنف، بهذه الصورة المبسطة:
(الوعي الداخلي لبنجامين: ـــــــــــ
الوعي الخارجي لبنجامين: ـــــــــ
الداخلي + الخارجي لبنجامين: ___________________).
(يلحظ القارئ أن الخط الثالث أدق الخطوط وأطولها، وأن الأول أطول من الثاني قليلا، لكنهما ينتهيان إلى شكل موحّد لا يمكن الفصل فيه بين التيارين، بل يتداخلان ويمتدّان في سياق دقيق).
ذلك ما جعل جبرا إبراهيم جبرا يقرر أنّ رواية الصخب والعنف هي رواية تيار الوعي بامتياز، وذلك لأن شخصيات أخرى أساسية في الرواية تعيش وعيها الداخليّ مع وعيها الذاتي بالفارق بين الوعيين، وتتلخصُ مهمة الكاتب (فوكنر) في تتبع هذا الوعي وحكايته بحرية تامّة، غير أنّ المسألة لا تتوقف عند ذلك الحدّ لدى بنجامين، بل تحتاج إلى خلقٍ حقيقي يلتزم بشروط نظرية المعرفة لدى شخصية المهووس (بنجامين). الأمر ذاته الذي نشهده في قصة همس الجنون لنجيب محفوظ، وإنْ بصيغة أقل حرفية.
تيار الوعي هو مونولوج داخلي ملتزم:
لسنا الآن في مرحلة رصدٍ للطرق الكتابيّة التي نعرفها لتيار الوعي، بل لنقرّر أن تيار الوعي في الأعمال الكبرى يسجل إيجابا يفرضه هو على نفسه: أن يلتزم بواقعٍ نفسي، بمعنى أوضح: هو مونولوج داخليّ ملتزم، (ومن هنا يمكن لمن يهم بالاستدراك علينا في الفترة السابقة أن يدرك ما عنيناه بضرب المثال بهملت شيكسبير) بدليل أنّ رواية (الورثة) للأمريكي العظيم الآخر الحائز على نوبل، الذي يحمل الاسم الأول نفسه: (وليم غولدينغ). هذه الرواية ترصد تدفق وعي مجموعة من البشر في فترة ما قبل التاريخ، وهم على افتراض الرواية في أولى مراحل الارتقاء إلى الصبغة البشرية، حيث تتشكل الأفكار في الوعي انطلاقا من صور مجردة. وعندئذ وجدنا أن (غولدينغ)، يلتزم بواقع مونولوجي نفسي، فالصور التي تتكون لدى حالة الخوف، وترسم التصرفات النصف حيوانيّة/ نصف بشريّة. تلتزم بالشروط التالية:
1. التصور القاصر لدى إنسان ما قبل التاريخ.
2. الذكاء الغريزي لدى إنسان ما قبل التاريخ.
3. اتخاذ القرارات أو ارتجالها بعيدا عن المحرّك القيمي.
4. ظهور البذور الأولى لتكوّن الخليقة البشرية بشكلها الحالي.
وإذن فإن الواقع النفسي في رواية غولدينغ+ الواقع التاريخي البدائي+ الواقع السلوكي الحيواني+ الافتراضات المنطقيّة. هي ما يتحكم في تسيير الروائي ورصده للتدفق الجماعي لتيار وعيٍ مجرّد في تلك الرواية، إذ لم يتدخل الراوي العليم قط في تفسير أيٍّ من الفروقات السلوكيّة المحيّرة للقارئ.
على هذا الأساس فإن تدفق أي تيار وعي، سواء كان يحمل صبغة المرض النفسي (وهو الغالب في كلاسيكيات هذا النوع من الكتابة) أو غير ذلك، هو خاضع لواقعه النفسي. نشهد ذلك في رواية النفق للأرجنتيني ساباتو، وفي روايته الأخرى أبطال وقبور بخاصة لدى شخصية فرناندو (التي لم تكن سوى تيار وعي موحّد، يمثل نهراً فاصلا بين أحداث الرواية، ممثلة لمرض الرهاب) أو لشخصيّة حارس المرمى المعتزل في رواية بيتر هاندكه (ممثلة شخصية القاتل المزاجي الذي يعاني من التوحّد.
الشرط الفني للوصول إلى كتابة تيار الوعي:
ومن هنا فإن الوصول إلى كتابة تيار وعي فنيّ، تحتاج إلى صدق معرفي وصدق فني معاً، وإلى إتقان لكتابة المونولوج الداخلي أولا، وليس إلى تحرير اللغة والتعبيرات الذاتية لدى الكاتب، لأن النص القصصي يظلّ نصّا ينظر إلى الخارج دائما. وعلى القارئ أن يكون في مأمن من الوقوع تحت سطوة التشعبيّة، أو حتى الافتتان بها.
تفريع على سبيل التطبيق:
كتبت مي العتيبي نصّا بعنوان (حمأ) تلقّى استحسانا (شبه انبطاحيّ) من كثير من القرّاء، غير أنّ أحدا من القرّاء لم يتجاوز حالة اللغة والاستعارة الشعرية (الحالة البشرية التي تعود إلى حالة طينيّة). والذي يعنيني هنا، أن المونولوج الداخلي لبطلة القصة لم يكن يرتقي إلى أن يصبح واقعيّا، إلى درجة أنه لا يمتلك أي مقومات يعيد إليها الحالة سوى الحالة الطينية الموروثة من النص الديني (الحمأ: الطين الداكن المتعفن: أصل البشريّة). وعليه: فإن النص المذكور لم يتعامل مع واقع المونولوج:
1. الكاتبة تصور لنا البطلة في حالة تحوّل، ونصوص التحول مليئة بالمونولوجات التي ترصد الوعي، لكن لا يوجد منها نصّ لم يناقش حالة التحول ماديا وجسديّا. فهي تقدم لنا شخصية شبه مثالية، ومع ذلك فهي تنظر إلى المجتمع الذي تلقت منه تعليمها وتحصل منه رواتبها على أنه مجتمع يأخذ ولا يعطي، فمن أين تلقّت هذه الشخصية تعليمها؟ أمن الفراغ؟ ومن أين تعتاش ماديا؟ من الفراغ؟ إذن فواقعية المثالية لدى الشخصية التي تم تقديمها غير مثالية.
2. لا ترصد الكاتبة الجوانب التي يفترض بوعي يتعرض لحالة تحوّل حسيّة أن يعاني منها، فالشخصية تتحول إلى طين في المساء، وتعود بشرية في النهار، وتفقد جزءا من جسدها كلما أرادت أن تغسل يديها، فهل هذه الشخصية لا تستحم إلا في النهار؟ وإذا استحمّت في الليل وسقط رأسها فما الذي يمكن أن يجري؟ وإذا كانت الوحل يسيل منها فمعنى ذلك أنها تفقد جزءا من جسدها، فهل هي تعوض ذلك بأن تصب على نفسها وحلاً؟ هل تملأ أكياس رمل من حديقة الحيّ وتتوحد بها لتخلق نفسها وتعيد ملامحها مجددا؟ هل تشعر بأنها تخلق نفسها؟ وماذا يمكن أن يجري لهذه لشخصية داخل منزلها؟ هل هي عزباء وحيدة حتى لا يرصد أحد حالتها التحولية؟ وإن كانت وحيدة فكيف تتحرّك؟ إن الحالة الطينية تتدخل في فيزياء الحركة الجسمانية، سوف يتغير شكل الجلوس، وسوف يتساقط الطين على البلاط، ولن تستطيع أن تلتحفَ بملابسها، وسوف تفقد جزءا منها هنا أو هناك. الأمر الآخر: أن بطلة القصة امرأة، فلماذا لم تستغل حالتها (الصلصالية) لتحسين ملامحها؟ لكي تجسّد لنا حالة الهاجس الجماليّ لدى المرأة؟ ولماذا لم تناقش سوى حالة التشقق فقط خارجيا، بصيغة لغويّة استعارية شعرية؟ بعيدا عن شروط الواقع الذي ورّطت فيه شخصيتها. بل تكتفي بأن تذكر مشاكلها مع أبسط وأقل شيء: مشاكلها مع فرشاة الأسنان! ومع المطر، والاستحمام بماء ساخن، وملابسها التي تخلعها، أو معاناتها عندما تشعر أنها تبتلع طينا، فهل معنى ذلك أنها تبتلع نفسها؟ ما حالتها الهضمية؟ وكيف تتقبل أنها تأكل نفسها؟ وكيف تعوض ما فقدته؟ وهل تخلف فضلات طينية مثلا؟ ما الذي يجري لأعضائها الحيويّة أثناء التطيّن؟ كلها زوايا كانت غير مضاءة لدى الكاتبة، لكن ذلك لا يتفق مع واقع الشخصية، ولا يقنعنا ظنّ الكاتبة أن حالة الوعي الداخلي للشخصية هي حالة شعرية مجردة.
مختصرات:
أبرز رواية سعودية اعتمدت أسلوب تدفق تيار الوعي:
ثلاثية المكتوب مرّة أخرى للدويحي. غير أن أسلوبيتها التي تنطلق من ذات الكاتبِ ساهمت في تطويقها بتيار الوعي الشخصيّ، الأمر الذي حولها إلى شهادة محكيّة على ظروف اجتماعية وسياسية وثقافيّة وتجارب متفرّقة عانت منها الذات الكاتب لدى المؤلف، ولولا أنّ الكاتب نظمَ هذه المتناسلات كلّها في رؤية الفقد فلربّما تفتقت عن كتابة حرّة لا عن رواية بالمعنى الذي نفهمه.
الأهداف التقليديّة للجوء إلى أسلوب تيار الوعي:
1. التحرّر من شروط الحبكة الواقعية الاعتيادية.
2. فسح المجال للترميزّ والإسقاط السياسي والاجتماعي والتجريب الجدلي.
3. الاستعراض المهاري.