هواء البحر يملأ صدرى.. أقف فى مقدمة "القارب الضخم" وأفتح ذراعاى على اتساعهما فيأتينى صدى الضحكات والموسيقى المنغّمة من رفاق الرحلة.. إنها ليست تيتانيك يا عزيزتى .. فيهبط ذراعاى بخجل.. "القارب الضخم" هو الوصف الذى يطلقه صديق زوجى على اليخت الصغير الذى يملكه.. جلس يوماً يؤكد لنا أن كلمة يخت أكبر من اللازم وكلمة قارب أصغر من اللازم على بيته الثانى .. الذى يدعوه "سهم"..
تركت الهواء يتخلل مسامى .. وجلست على حافة القارب أرقب الخشب المدهون بلون زاعق البياض..
كانوا قديماً يطلقون عليه"الغزل".. لم أسمع هذه الكلمة منذ زمن.. جيراننا فى الطابق الأرضى الذين يعملون بالصيد ولا يغلقون باب بيتهم أبداً.. يفترشون جميعاً صالة البيت وتتوسطهم كومة الغزل.. تلك الكومة الكبيرة من الشباك التى يزين أطرافها كرات بنية اللون من الفلّين.. يمسكون بأيديهم آلات رفيعة تشبه الملاقط وينهمكون فى ترقيع الشباك المتقطعة.. حتى أطفالهم.. منهمكين جميعاً فى هذا العمل فى سرعة ودقة شديدة.. أهرب من أمى ..لأختفى وسط الصغار الكثيرين وأحاول تقليدهم فيزداد القطع اتساعاً..
ـ هواء البحر منعش.. هل يمكننا تعبئة بعضاً منه فى زجاجات نستمتع بها بعد العودة؟
تمنيت للحظة أن أنزع غطاء رأسى..أود لو تخلل الهواء شعرى.. لكن كل الرفاق يحيطون بى .. وينادوننى للمساعدة فى إعداد مائدة الطعام وفتح المعلبات..
كانت الجارة تطهو طعاماً غريباً عن طعام أمى.. يجتمعون على الأرض وتضع لهم فى منتصف الحجرة طبقاً كبيراً كالذى تغسل فيه أمى الثياب.. المكرونة الحارة وجبتهم الرئيسية.. ينقضون جميعاً كباراً وصغاراً عليها.. فيتحول جبل المكرونة إلى بقايا صغيرة فى لحظات.. تطعمنى الجارة القليل حتى لا أمرض وتنال توبيخاً من أمى.. لكن وجبة الأسماك الصغيرة المشوية بالردة على قطعة من الصاج كانت تروقنى كثيراً
طعم التونة المعلبة يتناسب مع القارب الضخم.. سمك نظيف.. مجهز.. لا يلوث يديك وأنت تتناوله .. تماماً ككل ما فى القارب.. كل شىء لامع.. بارق.. جديد..
الرحلة فى اللنش العتيق الذى يتشارك فيه جارنا مع ثلاثة من إخوته لا تُنسى.. وافقت أمى بعد نضال على ذهابى معهم.. كان البحر ضخماً .. واللنش المتشقق الكالح اللون أشد ضخامة.. كنا نجرى كالمجانين ونلعب الاستغماية بين أروقته الكثيرة.. وكنت من الصغر بحيث كنت أجد العديد من الأماكن للإختباء..
أدقق النظر فى المياه الصافية من مكانى على حافة القارب الضخم فأجد أسراباً من السمك الصغير جداً قريبة من السطح..
ـ هل يمكن أن نصطاد القليل من هذا السمك؟
ـ أظنه ممنوع صيد السمك الصغير..
ـ سنطلقه فوراً.. فقط نصطاده ونلقيه..
كان الرجال يلقون بالغزل فى البحر من طرف وأطراف أخرى بين أيديهم .. وتظل حركة الشد والجذب طويلاً حتى يقرر أحدهم رفع الغزل.. وتسقط الكومة الكبيرة على أرضية اللنش مليئة بالأسماك المتقافزة.. صراخى الفَزِع أضحكهم جميعاً.. بكيت .. فقط عندما اخترق ذلك المسمار اللعين قدمى.. كان ناتئاً من قطعة خشب ملقاة.. وأعادتنى الجارة لأمى محمولة على يديها وبرباط أبيض كبير يلف قدمى..
ـ منظر الغروب رائع.. كم هى خانقة حياة المدينة..