السلم الحلزونيّ
توافدت الجموع ، والباب الخشبي المعتق لم يتوقف عن الصرير .فمن فتح لإغلاق لا يمكث حتى يفتح من جديد.
من مكان بعيد مرتفع في البيت، كانت حواسها تتابع تلك الحركة ، وذلك الضجيج المكتوم .
هدأ الباب أخيرا واستراح في إطاره بعد أن تخيلت أن نصف سكان الكرة الأرضية قد حُشِروا في أرجاء المكان أسفل السلم الحلزوني الذي كانت تتموقع أعلاه.
بدأت تمارس هواية التأمل التي تجيدها ، تأملت الوجوه باهتمام ،بلقطة عامة بداية . وجوه بيضاء وأخرى سمراء وغيرها باهتة ، ثم أخذت اللقطة تضيق لتتابع التفاصيل .
هي الشفاه أكثر ما يسبب الضجيج ، بعضها رقيق وبعضها غليظ وأخرى داكنة صامتة مزمومة . تأملت العيون ، ويا له من مشهد ، عيون ساهمة حالمة غير مكترثة ، بينما تدور غيرها في محاجرها تتابع ما يحدث بنهم وتحفز .إلا أن هناك بعض العيون تبدو وكأنها من زجاج قُدّت ، فهي باردة جامدة صقيلة !
أما الأنوف فهي فُرجة بحق ، بعضها فضوليّ يكاد يشارك في الحوار ، فتراها تفتح وتغلق باهتمام لا إراديّ، وبعضها أنوفٌ أنِفَةٌلا تكاد تسمح بمرور الهواء للتنفس. يا للبشر !
نزلت بضع درجات من سلمها العتيد الذي يخفيها عنهم تماما ، بينما تراهم بوضوح .
هم منهمكون ، وهي في مكمنها تصلها الصورة ثابتة حينا ومهتزة أحيانا ، أما الروائح فهي تتصرف تبعا للحركة ، تصل محددة عندما تثبت ، ومختلطة عندما تستأنف.
أما الأصوات فهي رسائل مختلفة كانت تصل لأذنيها، بعضها هادىء مقنع وبعضها صاخب مزعج ، وما تبقى فهو خليط من ناعم رنان وأجشّ أبحّ.
بين كل صوت وآخر كان صوت أمها يتسلل نغمة رقراقة على حزمه:- أمي . أمي. نادت ثم تذكرت أنها كانت تتخيل صوت أمها التي كانت قد قد انتقلت إلى مكان أبعد من البعد ، وأقرب من القرب.مكان يسمح لروحها الرؤوم أن ترفرف حولها في ساعات من الصحو والمنام .
ألح صوت أمها : كوني حازمة . اتخذي قرارك مهما كان . فأنْ يكون إيجابيا أو سلبيا هو أمر نسبيّ. اتخاذ القرار أفضل من التأرجح فوق الأحداث.
- لن أنسى هذا يا أمي ، أعدك ! وغمزت بعينها التي تحولت الغمزة فيها دمعة حرّى.
نظرت إلى الحشد من مكانها الخفيّ ، وبدت على ملامحها مسحة من قوة جعلت اللون الدافىء يتسلل إلى وجنتيها ، فيما كانت تهبط السلم بهدوء وثبات .
كانت النسوة يتناقشن مع أزواجهن ، وكان هو يجلس بين الحشود منتظرا لا يسعفه الكلام.صمت الجميع فجأة إلا من بعض أصوات وهمهمات كانت تنهي جملة هنا وكلمة هناك.
جلست على الدرجة الأخيرة نزولا وهي مقطبة ، فقطبت الوجوه، ثم ابتسمت فجأة ، فانفرجت الشفاه عن ابتسامات بعضها مغدِق وبعضها متحفظ . نظروا إليها منتظرين ، إلا أنها احتفظت بصمتها الباسم ، مستعرضة الوجوه مرورا بلحظة توقف على وجهه الأنيق المنتظر .
يُثار اللغط مجددا بتدرجات صوتية متنوعة . وحدها النظرات كانت متفقة على الثبات باتجاهها .نفضت جسدها بحركة مفاجئة ، في حين سمحت لأصابعها العشرة أن تتخلل شعرها بحركة تدليك دائرية ، فهدأ اللغط وتوقفت الحركات بانتظار الإعلان ، وعلت الشفاه ظلال توقعات باسمة . هم يعرفون حركة التدليك والعبث بالشعر هذه.
استلّت أصابعها ببطء شديد فتبعتها العيون ، فنظرت إليهم ، بل إلى العالم من خلالهم وقالت بهدوء حازم ولكنه رقيق : لا .
_________
حنان الأغا
31-3-2007