رسالة من وردة إلى وردة
جفت الوردة ولم يعد عندها حتى الشذى لتنثره!
الآن وأنا ألفظُ أنفاسي الأخيرة وتخترقني سهام تمرمرت من مرِ ذكرى أيام خلت , أتأملكِ جثةَ عشقٍ محتضرة وكنتُ قد اعتدتُ على تأملكِ خلال رحلتكِ القصيرة مع الأيام.
تأملتكِ لحظة ولادتك ,أنت تحاولين اختراق أوراق برعمكِ الخضراء في غصنكِ المنقسم من غصني كجنين شقي يركلُ مخترقاً ظلماته الثلاث ثم يناطح برأسه متوغلاً في طريقه المظلم يتلمس ضوء بعيداً, يجر خلفه مشيمة حياة وهبته وجود, ومنتزعاً من رحمه بقايا أمانٍ تربع علي عرشها لتسعٍ من الأشهر.
ثم تأملتكِ وأنتِ تزهرين كأجمل زهرة طفلة في عقدها الأول, فأخذت من الزنبق بؤبؤ زهرته ومن النرجس عين صفرته ومن الورد أحمر خده ومن الياسمين أبيض جلده... فدخلتي عقدك الثاني وأنت تورقين كزهرة ماسية نادرة تتلألأ فتنير غياهب الظلمة, فامتدت إليك يدٌ بأصابع من تملك, وما إن لمستكِ حتى قبضتْ عليك بكل قسوتها تائهة بين شهوة وغريزة, واعتصرتكِ في عنفٍ شفاه رغبة, فسحبت روحكِ مع عطركِ وتركت لكِ بقايا روح وأطلال جسد ولوناً أسودًا.
وتأملتكِ وأنت تتلمسين جراحكِ وتُرتقيها حتى بلغتِ بدايات عقدكِ الثالث, وتفتحتِ بكل الطاقات المتفجرة في أعماقكِ, وأصبح لونكِ الأسود الياقوتي لوناً فريداً أضاء الأفق كأسطع نجمة, وسكنت كل العيون الناظرة, فرحتُ أحذركِ من كل يد وإصبع وأنصحكِ: احذري قدماً لا تعرف الفرق بين زهرة وحجر, قد تدوسك, رأتكِ خطواتها أم لم تركِ , فلم تعدِ الزهرة المقدسة لأفروديت وفينوس, فعصر الآلهة انقرض, وزالت الأندلس وذهب معها أمير أندلسي طليق قد هام بكِ في شعره.
واحذري بني إنسان, فهم قد يسمونكِ شهراً من أشهرهم أو بنتا لهم, لكنكِ لن تجدي منهم من يدفع ليشتريكِ فهو قد يدفع ليشتري رغيفاً, لكنه لا يدفع أبداً ليشتري زهرة مهما كانت جميلة , إنما يخطفها من فوق غصنها عنوة فيقهرها في إغفاءة منها أو إفاقة . فلا تميلي فتُقربي لحظة قطفكِ, وتكتبي بيدكِ مصيركِ عندها يتم قصفكِ, فتسقطين من فوق عرشكِ, وتتبعثرين بين يدٍ تنادي ببيعكِ, أو تُعرضين خلف زجاج رقكِ, فيستباح في الأسواق عرضكِ أو تصيرين خيطاً في نسيج أو ثوب, أو تسكنين لوحة أو باقة مجففة فوق حائط مشنقتكِ.
ثم تأملتكِ وأنت تلقين بنصائحي عرض الحائط, وتسيرين بكامل إرادتكِ نحو حتفكِ, ورأيتكِ وقد احتواكِ في لحظة حنان جامح سقط سهواً من يد قسوته, وشدكِ إليه في احتياجٍ عطش لتمتصي سم الذنب المنساب من صدره فتهبيه لحظة راحة كم ظمأ لها.
فرحتِ تتعلقين بزغيبات أمل يجاهد في رمقه الأخير يبغى انصهاراً أبدياً وقد تدللتِ في هيام لم يعرفه بعد عاشق, فلان الحديد في يديكِ, فاختطفتِ منه لحظات من جوى حارق أحيته وبعثتكِ من العدم, وانتزعتِ منه كلمات عشق يهفو إلى حياة ثم عاد فبخل فلم تعدِ تدرين , هل أطلقها لسانه في غفلة من قلبه أم باح بها قلبه في نومة من عقله.
وتأملتكِ وأنت تتلمسين بلسان خيالكِ ثغره المطبوع على خدكِ, لتتذوقي عسلاً مسالاً عليه, وتتحسسين بأنامل حنان جارف خطوط ملامحه الحزينة المحفورة على صفحات عينيك الخالية إلا منها ومن نقش يتيم لحروف اسمه.
استهواكِ وجهه المضاء بالوجع فأبيت إلا أن تسبحي فيه ويستبيحكِ عبث الغرق, واستعذبت لدغات فراش يحوم حول ضوئه, فتحملتِ زعافاً يسري في دمكِ لتستخلصي له ترياق الحياة. وسلختِ نفسكِ مني, وفصمتِ غصنكِ من غصني, فصرخ جسد فارقته روحه.
وتأملتكِ وأنت تنتهين, عندما أثرتِ الفناء وهجرتِ الخلود ونزلتِ من عليائك, فاستحلتِ من نجمة عز قطافها إلى نجمة هوت محترقة بعدما لفظتها سماؤها في لحظة غضب. فتناثرتِ شذىً يستجدي من عينيه رحيقاً, ورحتِ تتخبطين هائمة في كهف صمته المظلم وتتشبسين في عجز بيده الهاربة, وهمتِ بوجه قدَّ من قسوة ترشفين منه الوجع حتى ثملتِ, فابتلعكِ الهذيان, ورحتِ تنسجين صامتة من وجعكِ أقنعة مبتسمة تخفين بها وجهكِ النازف فيه شريان اليأس , وتتسولين بها ابتسامة رضا ماتت على شفتيه قبل أن تولد.
هرعتِ خلف سراب الجوى فتساقطت أوراقك على أرصفة البعد, وبعثرتها ريح غادرة , فتفتت في دروب الضياع, بعدما هرب دفء كفه من برد يدك, وعندما حاولت العودة عدت عارية من شبابك كشجرة خريف وحيدة لا غطاء يظلها من قيظ الهجير ولا قبس من نور عينيه يهمس وسط ظلام وحدتك الأبدي , وصرت تترنمين باسم من نحركِ تحت أقدام ظلمه الوثني في ترنيمة عشق مجنون جب كل قصص العشق في كتب التاريخ.
الآن أسلمُ آخر أنفاسي لبارئها وأتأملكِ تأملي الأخير وأنت ترقدين هناك تحت أقدام ظلمه, جثة خرساء يابسة , أودعكِ وأهمس لكِ همسة أنين مفجوع امتص عذاب العالمين:
أيا وردة جفت ولم يعد عندها حتى الشذى لتنثره !
من سينثر الآن الشذى ؟؟؟
بقلم/ د. نجلاء طمان
إهداء:
الى نور سمحان
من أعز نصوصي الى قلبي... أحببت أن أهديكِ إياه نور.