الخفافيش المتمردة
على هامش المقبرة، عند مصب الوادي الحار انزوى جحرهم.. رهط جفت أسسهم وذبلت أعوادهم، تجاوزوا سنهم كما وشت سماهم، يعمهون في كينونة يلفها الصهد وتغرقها الأنواء. هذا دأبهم كلما وجبت الشمس عن دنياهم. في أجواء موبوءة النسائم تعربد قهقهاتهم.. متكلمون، منصتون في نفس الآن. هم أربعة وخامسهم كلبتهم. نفثهم الدهر كالهشيم تذروه الرياح، بيد أن جذورهم ما تزال تضرب في غور المصب حيث هم. ليس من تحفة تؤنسهم سوى ذلك المخلوق الأخرق، العاكف على أوتار آلة من صنع يديه يدغدغها.. وجه سوده الدهر وأحال سحنته أخاديد تضمر سرَ عتو الأيام الحالكات. في ثنايا ليل بهيم غرقت ساحة الصراط عند المصب.. هناك أوى الضباع إلى كهفهم يرتشفون كؤوس المنايا أنفاسا.. بدوا محاصرين في خلوتهم وانطوائهم، أشهروا سكاكين الحسم في وجه العالم من حولهم، أعلنوا قطيعة أبدية إلا حين تجف قناني الكحول فتمد جسور التواصل. كم هي غريبة ملامحهم كما عرى عليها قبس الشمعة! فهذا معكوف جفف الزمان به قاعه، لا يفتأ ينط كالقرد.. وذلك مرذول صنوه، تمدد معتمدا على مرفقه، يضمر شروده أنينا باطنيا تتصدع له الجوانح. بجانبه قرفص الأمير سخمان الساقي العادل، ما يزال مكبا على القارورة يفرغ منها في علبة سمك علاها الصدأ.. حمل ثقيل بات يؤرقه، مهمة عسيرة لا يطمئن إليها متى جاء دوره.. ولا مفر مما قضت به شريعتهم. وعند جدع الشجرة على مقربة منهم انزوى الموسيقي الأخرق يقرع الأوتار وبجانبه بسطت الكلبة إيطُو ذراعيها.. وهم يعمهون في دنيا الموت البطيء قال معكوف ملوحا:
ـ أمعاؤنا أنهكها الصراخ.. قطعها الكحول إربا إربا.. ألم تفهم رأسك بعد يا سخمان؟
كف الأخرق عن العزف ورفع رأسه، فبدا وجهه الأسود ذو العين العمياء يبعث على القرف، وصاح ولعابه يتطاير:
ـ اختر الفتية السمينة..
واندفعت الأصوات تشيع سخمان.. احذر الشارف ولا تساوم ذات حمل.. هيا لتكن قناصا بارعا. وفي خطى متهالكة سار الأمير مطأطئ الرأس، بارز الظهر، بيده خرقة لفت على سمك نيئ. الضرس الثائر، المهمة الجسيمة.. الكل عزله عما حوله. نظرة حائرة ومضت في عينيه المنتوفتي الرموش. راح يجتر خواطره غير عابئ بكلب ضال ينبح عند عتبة سيدي بوكيل. الأمير وديع صموت، يؤثر الطواف بالليل والنهار، ولا يؤوب إلا محملا بما انتزعه استجداء من قناني كحول الحريق وفتات المطاعم. عاود الكلب النباح على مقربة منه، حاول صده باحثا في الظلام عن عود أو حجر فزلت به القدم وانكفأ على وجهه. صرخ من ألم كمن ألمت به لوثة. استعاد أنفاسه فهب متحاملا على نفسه يتحسس ما لحق ركبتيه من الأذى. عرج على مزار الولي سيدي بوكيل فاقتعد دكة من صخر قائمة هناك، أسند ظهره إلى الجدار مترقبا. الليل داج ملف الأجواء في بردة متفحمة، وسخمان يحذق في باب دار مشرفة على الضريح، ولسان حاله يردد.. وددت لو تنسابين من فرجة الباب يا صغيرة.. بالله عليك هوني علي.. خففي عني أهوال الترقب، مغبة الأوبة بخفي حنين.. الأفواه عند الصراط مفغورة تنتظر، لا ترحم "إياك والجاموس..احذر الشارف.. اختر الفتية السمينة". اتسعت انفراجة باب الدار بعض الشيء، عن له شبح يدب خارج الباب.. أجهد بصره الذاوي مصارعا حالك الدجى، رأى بغتة نفسه مشدودا إلى بياض صدرها والجزء الأعلى من أكارعها، مأخوذا من توهج عينيها كأنهما جمر متقد. في اتجاهها ألقى بالسمكة المعدة لهذا الغرض فارتمت عليها في لهفة. ومن فرط الرغبة العارمة في احتواء المقصود مد يديه ممسكا بعنقها، مدثرا إياها بحاشية قميصه المتهالك من دون أن يأبه لموائها الشجي. ولى بشوشا حول الرهط المفغورة أفواههم وقد غنم غنما، ولم يغرم غير السقطة التي تسبب فيها الكلب المنحوس.
وهم يلوكون اللحم منتشين، قال سخمان:
ـ ما قولكم في الطريدة؟
أجاب مرذول في اقتضاب:
ـ نعم الصيد الطريدة، لحمها طري..
عقب سخمان موقعا براحتيه:
*قطتي صغيره.. واسمها نميره*
وأردف الندامى في نغمة متوازية:
*وشعرها طويل.. لعبها يسلي.. وهي لي كظلي*
قال معكوف ساخرا:
ـ لو علمت بريجيت باردو بفعلتكم لرفعت بكم دعوة قضائية!
عقب سخمان في لهجة متثاقلة:
ـ ماذا جنينا حتى نحاكم يا هذا؟
ـ الإبادة الجماعية لأجراء حومة سيدي بوكيل وصغار قططها.. نحن مجرموا حرب أيها الأمير..
وفي صوت من استبد به الضيم واستشعر لعنة المهانة، أجاب الأمير:
ـ و من نحيله نحن على المحاكمة؟ من نقاضي؟.. أ هكذا تكون دولة الحق والقانون؟.. فمن منا ادخر جهدا في خدمة هذا الوطن؟
قال مرذول معرضا بالجميع:
ـ فاعل الذنب لا يستأهل غير العقوبة يا هؤلاء.. يا نحن!
كالمتبرئ لهج معكوف مرطنا على أذنه:
ـ اسمحوا لي أيها الخفافيش المتمردة.. لست مهيئا للخوض في عباب السياسة.. لا علم لي بفقه السياسة..
عقب مرذول متهكما:
ـ أ ما يزال هاجس السياسة يقبض بأنفاسك حتى بعد أن تحولت من كلب سلطة جائر إلى صعلوك منبوذ حقير؟
ليس بخاف على معكوف وضع مرذول الذي تقهقر إلى حضيض يعج بالديدان، بعد أن ظل يصول ويجول معارضا في ساح النضال، فقال وقد نكأ جرحا في نفس مرذول لم يندمل:
ـ كانت جرعة اللقاح ضد داء السياسة ناجعة يا رفيقي وإلا ما تسنى لنا أن نتولى مهام الحفاظ على الأمن.. وأنت ماذا جنيت من السياسة يا مرذول سوى الذبح والسلخ في مخافر العار؟ وما أخالك نسيت وجبة الجلوس على القناني!
رد مرذول متأسيا، وقد جف الريق في حلقه من هول الذكرى:
ـ يا لتلك الأيام المشئومة!!
ولأمر ما تغير مجرى الحديث، إذ أشار معكوف بيده ملفتا الانتباه إلى الكلبة:
ـ أ رأيتم كيف أقبلت إيطو على العظام تقضمها؟
وبلهجة الساخر قال مرذول:
ـ إنه الوحم.. أبشر يا سخمان!
كعادته تساءل معكوف ساخرا:
ـ ماذا تقترح من الأسماء للمولود المرتقب أيها الأمير؟
لم ينبس سخمان ببنت شفة، إذ ظل يتابع لجاجهم في صمت، حريصا على ضبط ميزان ما يسقيهم به، فعقب مرذول:
ـ لم هذه الحيرة في التسامي؟ إذا وضعتها أنثى فهي سخمانة بنت إيطو وسخمان، وكفى ببهو سيدي بوكيل شاهدا..
هجع القوم إلا أقلهم.. علا الزفير محملا بأنفاس الكحول، ترجع صداه تلك الحصيدة المشرفة على الوادي، احتد الشخير في الأجواء مدويا، مغطيا على صرير جندب ونقيق ضفدعة، جعل معكوف يزحف كالصل، والكلبة إيطو ترنو إليه مرعوبة مروعة، حتى إذا أضحى بمحاذاتها حملها بين ذراعيه كما الوليد، سار يجر قدميه الواهنتين حتى انصهر بين حيطان الولي الصالح. لم يكن مرذول في منأى عن سيناريو الحدث، إذ بات هو الآخر يهيئ نفسه مترقبا.. هب من مضجعه وسار في ميعة الظلام يقتفي أثر غريمه.. خاطب مرذول رفيقه وقد خرجا على التو من معركتهم القذرة:
ـ لو عاينت بريجيت باردو فحولتك الشاذة وما فعلته في حيوان أبكم لحكم قضاؤها ببتر آلتك الحيوانية..
وعند عتبة الباب فاجأهم سخمان، وصاح في وجوههم.. بل سيقضي قضاؤها بفقس بيضكم أيها الخائنان.. ولكن من سيحاكم من؟؟
المج القصصية: الإخطبوط المجنح
محمد غالمي