إثْـمُ البَوْحِ
حينَ عرفتُكَ ما كنْتُ قدْ عرَفتُ قطّ سُفورَ الورَق ، ولاَ هذيَانَ القلَم ، ولَمْ أرْتكِبْ جريمَةَ سفكِ المدَادِ يوْمًا ..
أنتَ من حرض يراعي على ارتكاب إثمِ البَوْحِ ، ومعْصيةِ الكِتَابةِ ..
هَا قدْ كتبتُكَ حروفَ شوْقٍ ، وذَرَفْتُكَ دموعَ ألَمٍ ، حينًا مُستسْلمَة لضَعفِي ومرّاتٍ متمردًةً على نفْسِي وعلَيْكَ ..
وماذَا بعْدُ ..
أرَانِي اليَوْمَ وحرْفِي أسيرٌ خلْفَ السُّطورِ ، كظِلٍّ يُفنيهِ مغيبُ الشّمْس ، كغَيمَةٍ عقيمةٍ تلبّدتْ لتحجُبَ ضوْءَ النّهار ولاَ تأتِي بالمَطَرِ .. جفّ المدادُ ، فمَا بقيَ منهُ سوَى آثارةٍ علَى أنَاملِي تسَجّلُ بصمَاتِ عجْزِي ..
يا رَاحِلاً رَفَلَ بِالبَياضِ ..
صفحَاتي باتتْ قيعَانًا ، تشَقّقَتْ عطَشًا ، فلاَ بنت شفَة أزْهرَتْ فيهَا ؛ ولا أينعَ حرْفٌ على سنّ اليَرَاع ، ولا ذُبالة فكْرٍ تمَخّضَ بهَا العقْلُ ..
بترَ يرَاعِي مِنْ بينَ أنامِلِي ، باتَ بلا حياةٍ وقد نزَفَ فِي وَدَاعِكَ نزفَهُ الأَخيرَ ، وأعلنَ عن البَوْح توبتَهُ ..
قلبِي المذْبوحُ علَى قارِعةِ الوَرَقِ ، ينزِفُ الصّمتُ تأوّهاتِ ألَم ، وغاشيَاتِ الحُزْن تغْرِقُ بالدّمْعِ المؤقُ ، هدير الذّاكرةِ قاصفاتُ رعدٍ دوّى في حَنَايَا الرّوحِ ، تشْتعِلُ بصعق برْقهَا نيرانُ وجْد ، تحْرقُ أنْفاسِي اللاّهثَة عطَشًا لشربَةٍ منْ غيْثِ وصْلِك ، تتَوسّلُ الرّواءَ مِنْ نبْعِ حَنَانكَ ، بلَمْسَةٍ منْ يدِكَ تُنْزلُ القطْرَ مُزْنًا تسْقِي أيّامِي القاحِلات ، فتتَوّهجُ صَفَحاتِي برَقيقِ الكِلمَات تعْزفُ أنشُودةَ الشّوْقِ ، تُدير سوَاقي المِدادِ ، ترْوِي ظمَأَ الصّحاف التِي تاقَتْ لهَفًا لنبْضِ الحَيَاةِ ..
كمْ انْتظرْتكَ تُلْقِي بَيَاضَكَ علَى الرّوابِي بشَغَف ، كَمْ انْتَظَرْتكَ بَيَاضَاً يكسُو الأرْضَ رِدَاءَ نَقاء ، أفتَحُ لكَ شرُفاتِي كلّ ليلَة ، أسْمَعُ الرِّيحَ مَزَامِيرَ حَنِينٍ تُؤُرْجِحُ الأغْصَانَ ، وَقَلْبِي مُشْرَعٌ للفَرَحِ ، يَغْزِلُ بِنَوْلِ الصََّبْرِ خُيوطَ أَمَل، يَرْقُبُ فِي الأُفُقِ فُلولَ الغَيْمَ أمانِيّ َ بِشَارَة ..
وَجِئْتَ يَا بَيَاضَ الحَنينَ ، جِئتَ تَطْرُقُ لَيْلِي بِالزَّمْهَرِيرِ ، تَفْتَرِشُ قَلبِي ، تَزْفِرُالصَّقِيعَ طَعَناتِ خَيبَةٍ ، صَفْحَة بَيْضَاءَ تُغْوي المِدَادَ ، ، والبَاترُ المَبْتُورُ تخَثرَتْ دِمَاؤهُ ، فلاَ عطرا سكَبَ ولاَ لوْنًا ..
لَمْلَمْتُ حُزْنِي أنْثُرهُ ألوَانَ حُلُمٍ فِي سَمَائِي ..
سَقَطَ عَلَى الأرْضِ ، لِيَرْسُمَ صُورَةَ الوَاقِع ..