بسم الله الرحمن الرحيم
مما لا شك فيه أنّ العقول والمفاهيم والإدراك تختلف من شخص لآخر ، وأنّ الإبداع و التجديد إنّما يتوقف على مدى التحصيل العلمي لدى هذا الشخص أو ذاك - من علوم ومعارف وخبرات ثقافية وفكرية - على أنّه لا بد أيضًا أنْ تكون من خلفه رؤية أو مشروع يكون هدفه إمّا أنْ يضيف شيئًا جديدًا على مشاريع سابقة ؛ أو رؤى سابقة أنتجت هذا الفهم ، أو أنْ يأتي بشيء جديد مخالف تمامًا لما سبقه ؛ يحمل في مضمونه تجديدًا واعيًا و يقدم مفهومًا ورؤية جديدة غابت عن أذهان وعلم منْ سبق ؛ أو منْ كان معاصرًا له.
هذا ديدن المفكرين والمجتهدين والمصلحين ؛ أنْ يقولوا كلمتهم وما توصلت إليه عقولهم ومعارفهم ، بغية إصلاح وتنقيح عقول النّاس من الجهل والتخلف ، وطرح البديل الفعّال والواقعي والمرجو لتحسين أحوالهم والنهوض بها إلى أرقى المستويات ، لكن بشرط أنْ يكون – المفكر والمصلح والمجتهد - قد استوفى الشروط اللازمة التي تؤهله للقيام بذلك ، لأنّ العلم أي علم ؛ له شروطه وضوابطه والتي تحكم وتضبط عمله ، وأيَّ إخلال بهذه الشروط المعتبرة لذلك العلم محل الاجتهاد والإصلاح والتفكّر ، فقد تخرج نتائجه مخالفة للواقع محل التجديد والاجتهاد وبعيدة عنه .
ونحن هنا إذ نقرأ فكر الأستاذ الفاضل أبو بكر سليمان الزوي بخصوص التفسير والتأويل وقراءته للقرآن الكريم ، واستشهاده بتلك القراءات التي خرج بها في أثناء تصديه للكتابة عن واقع و مشاكل هذه الأمة وأزماتها التي تعصف بها منذ مدة ليست باليسيرة ؛ ومحاولة معرفة الأسباب التي أدت إلى كل ذلك ، أقول إنّ هذا الأمر ليس بالأمر اليسير ولا الهين على كل فرد يتصدى له ، بل هو أمر جد خطير؛ بل عظيم الخطورة ؛ لأنّ منْ يقوم بذلك إنّما هو في الحقيقة يخرج بنتائج تقول : إنّ الله تعالى ورسوله يقول كذا وكذا في الموضوع محل القراءة وموضع الاجتهاد .
وأنا لا أحاول هنا أنْ أقلل من حسن النية لدى الأستاذ أبو بكر ولا أبخسها حقها في محاولتها تلك ، بل أشد على يديه ؛ لأنّ الهدف كما هو واضح وكما يعبر عنه هو بنفسه ، إنّما هو هدف نبيل ، الغرض منه النهوض بهذه الأمة في كافة المناحي وكل المجالات .
غير أنني وأثناء قراءتي لمعظم النصّوصّ ؛ لاحظت أنّ هناك بعضًا من الأمور التي اجتهد بها ، والتي لا تتفق والسياق العام للنصّوصّ موضع الاجتهاد ، فثمة أمور لها دلالات واضحة لكنها فسرت وتم تأوليها بشكل مغاير لمفهومها الواضح ، أو لنقل إنّها بعيدة كل البعد عما ذهب إليه .
لذلك قمت بهذه القراءة والتي أهدف منْ وراءها توضيح هذه الأمور ، وتبيانها ؛ وذلك من باب الحرص والأمانة والتي لا أشك في أنّه يمتلكهما .
لكن وقبل أنْ أبدأ ؛ فأنني أرى أنّ واجبي توضيح نقطة مهمة وهي أنّ هذا العمل إنّما هو مناقشة لاجتهاد قام به ، ولفكر تبناه ، وهذا الأمر لا صلة له بشخصه ؛إنّما هو حوار حول ما يعتقده ويتبناه ، ولذا كان من الضروري توضيح هذه النقطة المهمة في نظري ؛ حتى لا يخرج القطار عن سكته ، ويفهم من الكلام عكس ما أريده وما نؤمله .
مدخل إلى فكر الأستاذ أبو بكر
كثيرة هي المواضيع التي تكلم بها الأستاذ أبو بكر ، لذلك فأنا لن أتعرض لها كلها ؛ إلا فيما هو محور قراءتنا هذه ، على سبيل المثال لن أتكلم في مسألة الثقافة وتعريفها ، وقضية المفكر وتعريفه ، ولن أتكلم عن الثقافة والحضارة ؛ هل هي إسلامية أم عربية ؟ لأنّ هذا الأمر يحتاج إلى بحث خاص ، فالأستاذ أبو بكر سليمان الزوي ينفي أنْ تكون هناك تسمية تقول بحضارة إسلامية أو ثقافة إسلامية ، وهذا ما نعد بالرجوع إليه في المستقبل القريب إنْ شاء الله تعالى - علمًا أنني لا أشك مطلقًا و لا أرى ما يمنع أنْ نقول بوجود ثقافة إسلامية وحضارة إسلامية - و لعلّ قراءتنا هذه تلقي الضوء حول كثير من الأمور التي تطرق إليها ، وهذا يعود لسبب جوهري ؛ وهو أننا عندما سنناقش قضية التفسير والتأويل في فكره إنّما نحن نخوض من بعيد – ومن قريب في آن معًا – في كل ما سبق ذكره ، لأنّ السبب الرئيسي الذي سنلحظه من خلال هذه القراءة هو التوجه الذي يتبناه وموقفه من مسألة النقل بشكل عام ، وتمسكه في تحرير العقل من تبعية النقل ، وحرية الاجتهاد والفكر ، لذلك فإنّ هذه القراءة برأيي ستلقي الضوء وبكثافة على منهجه بشكل عام .
العقل أولًا :
هذا ما يراه ؛ وهذا ما نقرأه ، فالعقل أولًا ؛ وهو يأتي في المرتبة الأولى من حيث الأهمية في قراءة كل شيء ، وهو لا يحتاج إلى من يعينه في قراءته تلك ، باستثناء توفر المقدرة اللغوية والفكرية ، أمّا النقل فهو قراءة لسلف مضى وترك تراثًا لا يتناسب وهذا الحاضر الذي نعيشه ، مع أنّه يؤكد أحيانًا أنّه لا يعني كل النقل ، لكنه يقصد النقل الذي يقدس آراء الآخرين ؛ فهو مرفوض إذ يقول "ما قصدته بالنقل المرفوض ، وغير المقبول لدي ، هو كل ما لا يجوز أن ترفضه عقولنا من المنقول من أقوال البشر أمثالنا .. أي تقديس أفكار وآراء السابقين وفهمهم للدين " اهـ(1) فالخلاف ليس على الدين ؛ إنّما هو في فهمنا للدين ، فإذا ما حصل تعارض بين والعقل والنقل حول أمر ما ؛ فإننا سنرجع للدين وهذا الكلام لا غبار عليه من حيث المبدأ " لا شك بأننا سنتّبع ما جاء به الدين ، ولكن أكرر بأن الاختلاف بيننا نحن المسلمين هو في فهم الدين , ولسنا مختلفين على صواب وكمال الدين .. وقصور العقل " اهـ(2) ولكي تتضح الصورة أكثر فإنّه يؤكد .." ولكن أرفض ، ولا أقبل ، بأن تفرض آراؤهم وأفكارهم واستنباطاتهم على أنها جزء أساسي من العقيدة أو الشريعة ، بحيث لا تجوز مناقشتها أو انتقادها أو رفضها أو تغييرها .. كما لو كانت جزءًا من القرآن "اهـ (3) وهذا الكلام ذا قيمة وفائدة كبيرة ، لأنّ من يقدس آراء الآخرين كما لو كانت قرآنًا فهو بلا شك مخطئ ، ويحتاج إلى عملية غسل دماغ ، فالمشرع هو الله تعالى منْ خلال القرآن ؛ وسنّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وكل ما أنتج منْ فهم واستنتاج أو استنباط إنّما يجب أنْ يكون تابعًا لمراد الله وسنة نبيه ، وعلى هذا فنحن هنا نجد أنّ مبررات الرفض منطقية ، في حالة ثبوت أنّ ما جاء من النقل هو مخالف لذلك ، أو في حالة أنّ فهم السلف لعصرهم وظرفهم بات لا يتواءم مع عصرنا وظرفنا ، فلا معنى لأنْ نتمسك فعلًا بما قاله السابقون ونمنع نحن من استخدام عقولنا لفهم واقعنا وظروفنا، وإذا كان هناك ثمّة من يمنع ذلك – أي استخدام العقول في الوقت الحاضر - فإنّما يكون قد خالف سنة الله في هذا الكون ، فما دام هذا الكون يسير وفق مشيئة الله ، وإلى أجل لا يعلمه إلا الله ؛ فإنّ التجديد والتحديث والاجتهاد سيظل مستمرًا ، لذلك نجد أنّه من غير المنطقي أنْ لا نستثمر عقولنا في فهمنا للدين ، وهذا ما نجده هنا إذ يقول أنّ "البعض " قد أوجد قاعدة مفادها أنّ الإسلام يجب أنْ يؤخذ بالنقل ، أي أنْ تكون تابعًا في فهمك لمن سبقك ،وليس بالعقل أي " بمعنى أنه لا يجوز شرعًا - لي و لك أو للشيخ القرضاوي - مثلًا ، أن نبدي رأيًا أو نقول وجهة نظر مغايرة - لتفسير ابن تيمية أو البخاري – مثلًا .. لهذه الآية أو تلك ، أو حول استنباطه لهذا الحكم أو ذاك . أو نتساءل عن مدى صحة هذا الحديث أو ذاك " اهـ(4) وهذا غير مقبول من حيث المبدأ أنْ لا نبدي رأيًا أو وجهة نظر حول أي أمر ، وإنْ كان مخالفًا لغيره من الآراء ،ومنْ ثمّ فإنّ الحديث السالف الذكر لا يتعلق بنصوص فيها حدود صريحة وقطعية لا خلاف عليها ؛ إنّما محوره مسألة الاجتهاد " ولكن تساؤلاتنا فيما هو موضع اجتهاد وحجتهم دائمًا هي أننا مخطئون لأننا نستعمل عقولنا لأجل فهم الدين "اهـ (5) وهذا يعني أنْ لا قدسية لآراء الآخرين ، وهذا صحيح 100% ؛ ولكن هذا التعميم – أي عدم الأخذ برأي الآخرين – لا يصح رفضه إلا في حالة ثبوت أنّه خالف بشكل واضح وصريح الكتاب والسنّة ، أو لم يعد يلبي حاجات ومصالح الأمة في هذه المرحلة ، ولكن السؤال الذي يبقى مطروحًا هو : إلى أي حدّ نستطيع أنْ نذهب بعقولنا منْ أجل فهم الدين ؟ وما هو الضابط لهذه العقول في حالة خروجها عن مسار ما أراده الدين أو ما فهمه السلف من هذا الدين – إنْ كان فهمهم له صحيحًا -؟ وما هي المرجعية التي سنتّبعها في فهمنا - - التحديثي أو التجديدي أو التطويري –كما يسمونه أتباعه - للدين ؟ هذا هو السؤال المركزي والمطروح أمام الجميع .
إنّ هذا السؤال يبقى مطروحًا ، ولعلّنا لن نجد له إجابة واضحة وصريحة عند المخالفين للفهم القديم ، وعند من استعمل عقله منفردًا مع كتاب الله ؛ وبعيدًا عن المرجعيات الأخرى و التي لا خلاف عليها عند أهل العلم ، وهذه المرجعيات التي هل محل خلاف أيضًا بين أصحاب الفهم الجديد – والتحديث – والتطوير – والمعاصرة - أصحاب النزعة العقلية التي تريد أنْ تحكم على النصّ من خلال العقل منفردًا بلغته وقدراته الفكرية ، أو لنقل ليست من ضمن أولوياتها المصادر الأساسية لهذا الدين أي الكتاب والسنّة ؛ فالبعض يريد أنْ ينفرد بقراءته اعتمادًا على الكتاب الكريم لوحده ؛ وهذا فيه مغالطة واضحة ، فمثلًا نقرأ عند الحديث عن الشروط التي يجب أنْ تتوفر فيمن يفسر القرآن والتي منها العلم بأسباب النزول ، علم الناسخ والمنسوخ ،علم النحو والصرف والبلاغة والمعاني والبديع والقراءات ، وعلم الكلام والفقه وأصوله ، والإلمام بالإسرائيليات ، والسنة النبوية المطهرة والدخيل على علم الحديث والتفسير، والعلم بمصطلح الحديث وعلم الرجال والعلل ، إضافة إلى الجرح والتعديل والأسانيد ،والقائمة ربما تطول ، فإننا نجد أنّ هذه الشروط في نظر الأستاذ أبو بكرهي شروط تعجيزية " أتساءل هنا ! كيف تتفق هذه الشروط التعجيزية التراكمية ، التي ألفها البشر، ولم يأمر بها الله ولا رسوله ، والتي لا يستطيع أحد إثباتها لنفسه ولا نفيها عن سواه ، فهي مطاطة ، وتتعلق بالنوايا والسرائر ، وليست معادلات رياضية حسابية – يسهل فهمها للجميع والتحقق منها " اهـ(6) وهنا قد يبدو الجواب غير معجز ؛ لأنّ كتاب الله ليس كأي نصّ ؛ ولا يجوز اعتباره كذلك ، وفهمه والاجتهاد فيه يحتاج إلى كل ما سبق ذكره ، لأنّ على هذا الفهم يتوقف فهمنا للدين والتشريع لهذه الأمة ، ومنْ هنا نعرف بأنّ ليس كل واحد منا لديه القدرة على سبر أغوار هذا العلم والتبحّر فيه ، فنحن هنا لا نتكلم عن آية أو آيات ؛ إنّما عن الكتاب الكريم ككل ؛ والذي هو كتاب الله تعالى ، وبناءً على ما سبق ؛ فإنّ التصدي لفهم القرآن وتفسيره والاجتهاد فيه يعتبر فرض كفاية؛ إذا قام به البعض سقط عن البقية ، فهو ليس كالصلاة أو الصيام .. الخ مفروض على الجميع معرفتها، وإلا فكيف نفهم هذه الآية الكريمة حين يقول الله تعالى " فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ "( سورة النحل آية 43) ومنْ هم أهل الذكر ؟ إذا كان الواجب يفترض أنْ يتعلم كل النّاس تفسير واستنباط الأحكام من القرآن ؟ كما أنّه ليس هناك ما يمنع أنْ يقوم مفسر القرآن الكريم بتعلم كل ذلك ؟ أليس هذا القرآن هو معجزة ، ألم ينزل بلغة العرب ؟ وقد ذكر فيه أكثر من 12 آية وبصريح العبارة أنّها لغة عربية ، فإذا كنّا حتى الآن لم نفهم الشعر الجاهلي واختلفنا فيه ، بل تصدى لهذه المسالة فطاحل الشعراء واللغويين وكل منهم خرج باستنتاج مغاير للآخر – ولعلّ من أبرزهم طه حسين في كتابه" في الشعر الجاهلي" - فكيف بكتاب الله تعالى ، ثمّ ما الضرر في أنْ ندرس السنة الشريفة ورجالها والضعيف منها والموضوع ، والسيرة النبوية وأسباب النزول ؟ أليس الرسول صلى الله عليه وسلم هو المشرع والمعلم والمفسر لكتاب الله ؟ وعلينا أنْ نتّبعه في كل ما جاء به ، وكيف نفهم القرآن بدون أنْ نفهم السنة وأسباب النزول ، فنحن نعلم أنّ القرآن لم ينزل دفعة واحدة ، بل نزل منجمًا ومتفرقًا طبقًا للحوادث التي مرت بها الدعوة الإسلامية قال تعالى " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً " (سورة الفرقان الآية 33) ألا يعني هذا أنّ فهمها ضروري ، وكم سننفق من وقت في قراءة كل ذلك ؟ شهر أو خمسة ، أو حتى سنة ، ليكن إذا كان ذلك ضروريًا لفهم كتاب الله ، ونحن هنا لا نقول أننا ضد منْ يقدم تفسيرًا جادًا متأملًا يدل على بُعد نظر ثاقب و تأمل عميق في الآيات القرآنية ؛ وإنْ كان ليس ملمًا بكل ما سبق ذكره ، ولا يشترط حفظه للقرآن الكريم ، ولكن أقول لا بد منْ توفر جملة من الشروط والتي لا غنى للمفسر عنها ، فمنْ سبقنا لم يفسر بعقله وفهمه فقط ، بل قد جمع إلى ذلك فهمه للأحاديث النبوية وأسباب النزول ومعرفة الإسرائيليات والناسخ والمنسوخ ، ولعلّ كل الكتب التي وصلتنا عن السلف ذكر فيها كل ذلك ، فنجد عند الطبري وابن كثير والقرطبي وغيرهم ما يدل على ذلك ؛ وهي منْ أمهات الكتب المعتبرة ، وحتى منْ سبقوهم فعلوا ذلك ، غير أننا نلحظ هنا اعتراض الأستاذ أبو بكر على مما سبق ذكره إذ يقول ردًا على ذلك " أنا لا أنفي هنا توفر ضرورة توفر المقدرة اللغوية والفكرية لدى كل من أراد التفسير والإفتاء ولكنني أقصد بأن المحاججة بالدليل والبرهان والمسلمات هو السبيل الصحيح للحوار والاجتهاد " اهـ(7) ومن هنا نفهم أنْ لا ضرورة تستدعي توفر كل ما سبق ذكره باستثناء المقدرة اللغوية والفكرية ، والإفتاء إذا لم يحتاج إلى كل ما سبق ذكره فماذا ستكون النتيجة ؟ فلو كل إنسان امتلك القدرة على حد تعبيره ، ورأى نفسه مؤهلًا للإفتاء والتفسير فمنْ سنتّبع في أمور دنيانا ، ومنْ سيقول لنا مثلًا ما هي أحكام سجود السهو أو الحج أو الزكاة ، وسائر أمور ديننا ؟ كما أنّ المحاججة بالدليل والبرهان والمسلمات هو صحيح تمامًا ، لكن تبقى هنالك إشكالية مطروحة للبحث ؛ ما هي مشروعية تلك المحاججة إذا لم تستوفي شروطها المعتبرة في الموضوع محل النقاش ، أليس للعلم شروطًا ومقومات لا يقوم بدونها ؟ والدين علم له شروطه ؛ وهنا يتساءل عن ماهية تلك الشروط التي يحصرها في تساءل يقول " فكيف بدا الأوائل كتاباتهم واستنباطاتهم وتفسيراتهم ماذا كان متوفرًا بين أيديهم - غير القرآن وعقولهم " اهـ (8) فهل كان القرآن هو المصدر الوحيد ، قطعًا لا ؛ لأنّ الواقع ينفي ذلك ، لكننا نجد تأكيدًا لهذا القول ومدعمًا هذه المرة بأسباب أخرى ومن ضمنها التفسير طبعًا " حيث يمكننا أن نتساءل ما هو النقل الذي قرأه – الأولون – عندما بدءوا بتأليف الكتب المنقولة إلينا !. ألم يعتمدوا على القرآن وحده ، وعلى حصيلتهم اللغوية ومواهبهم الفكرية .. حتى أنهم أفتوا لمن أجتهد وأخطأ بأن له أجرًا " اهـ(9) ولعلّ هذا القول يبدو غريبًا فيما يخص قضية الإفتاء بشكل خاص ، لأنّ هذا الكلام ليس من قول أي إنسان عادي ؛ بل هو حديث صحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يقول فيه " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثمّ أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ثمّ أخطأ فله أجرٌ "اهـ أي على حسن قصده واجتهاده (10) .
لذلك نستغرب حقيقة أنْ يرد مثل هذا القول وأنْ ينسحب على كل البشر دونما تفريق بين العالم والمجتهد وبين منْ لا علم له ولا مقدرة على الاجتهاد قال تعالى " قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ " ( سورة الزمر الآية 9) وهذا الأمر أي الحديث سابق الذكر فهو قاعدة يعمل بها عند كل أهل العلم المتّبعين للكتاب والسنة ، فحتى لو أخطأ المجتهد والذي لديه علم شرعي فهذا لا يخرجه من دائرة هذا الحديث ، لأنّه وكما هو معلوم هناك اجتهادات كثيرة ، وخلافات بين الفقهاء في كثير من المسائل الفقهية ، ولكن هذا الاختلاف إذا ما وضعناه في صورته الحقيقية ، فإنّه لا يخرج عن دائرة الاجتهاد وفق ما حصّل كل عالم من العلوم والمعارف وتختلف منْ شخص لآخر، وهذا له أسبابه والتي لا تخفى على كل من لديه علم في أي مجال كان ، فحتى الفلاسفة وعلماء الطب وعلماء الفلك والجغرافيا وسائر العلوم نجد اختلافات كثيرة في نظرياتهم ، وكل يدّعي العلم والمعرفة، فما بالك بعلم شرعي له طرق كثيرة في الاستنباط والفهم والاجتهاد ، وهذه ظاهرة طبيعية ؛ بل صحية ، لكن هذا الأمر - أي موضوع النقل- وما يتعلق به من تفسير القرآن – وحتى النقل بأكمله - نجد أنّه وبقدر ما وصف بالجمود وحتى التخلف – ومنهم من يسميه - بتطور التخلف - قاصدًا بذلك النقل بشكل عام - منْ أناس كثر ، ومنْ بينهم أصحاب ما يسمى بالمشاريع الفكرية أمثال محمد عابد الجابري والطيب تيزيني ومحمد أركون وحامد أبو زيد وغيرهم ، إلا أنّه وفي المقابل نجد أنّ هذا التشدد الذي أتهم به النقل بشكل عام قد قوبل بتشدد مماثل منهم - مساو له في القوة ومعاكس له في الاتجاه وربما أكثر – ولكن هؤلاء لديهم مشاريع فكرية - كما يقولون – ومنهجهم الحداثي المستورد واضح في أفكارهم ومنهجهم ، ومع ذلك فالبعض منهم يعترف بصعوبة التصدي إلى مسألة الخوض في القرآن الكريم ، ومنهم الجابري الذي بدأ بهجاء العقل العربي في كتابه - إشكالية الفكر العربي المعاصر - بأدوات الحداثة ورموزها المستوردة ، ثمّ دار دورة كاملة حول نفسه ؛ فإذا به يتوصل فيما بعد إلى اختراع عقلي فريد من نوعه في جنوحه عن جادة الصواب أسماه " مدخل إلى القرآن الكريم " ورغم ذلك فهو يقول " من خلال تعاملي* مع القرآن في* الأعمال السابقة،* أدركت أنّ القرآن هو واحد من الكتب التي* لا* يمكن أن تُقرأ كما يقرأ الإنسان جريدة أو قصة* .. القرآن كتاب تاريخي،* وللتعامل معه،* لابد من فكر تاريخي* متتبع لتطور الثقافة العربية وخصوصا الجانب الكلامي والفقهي.* إنّ آخر فصل من فصول أصول الفقه مثلا هو المتعلق بـ* "الفتوى*"،* والشروط التي* وضعت لإصدار الفتاوى* وما إلى ذلك" (11) فالرجل هنا يقرر أنّ هناك شروط ، ورغم كل ما صدر عنه ؛ إلا أنّ لكلامه قيمة أدبية عند كل منْ يحاول الخوض في أمور الدين ، حتى وإنْ كان فهمه للدين محدودًا ، ولعلّ هذا القول يلقي الضوء على مسألة مهمة ألا وهي ما يسمونه بالقراءات الجديدة والمعاصرة للقرآن الكريم ، ومحاولتهم تأوّيل القرآن الكريم باستخدام النظريات المعاصرة والتي لا تخرج في مضمونها عن مشروعهم المتمثل في أنسنة وعقلنة نصّوصّ القرآن الكريم ؛ هذه هي المشاريع الكبرى ، وهذا ما يبدو واضحًا من كلامهم ؛ومنهم الجابري الذي يعتبر النصّ القرآني نصّ تاريخي ؛ فيغرق بالتالي في تفكيك محتويات هذا النصّ على اعتبار أنّه ملك للجميع ، ولهم حرية التصرف فيه كما يحلو لهم ، إنّ هذه المحاولات كلها إنّما هي في الحقيقة تهدف إلى أرخنة النصّ القرآن ونزع القداسة عنه . ولو نظرنا إلى هذا الجمع لوجدنا أنّهم يخوضون معارك شرسة فيما بينهم ، فكلهم مختلفين وكلهم متناحرين ، حتى جاء دور جورج طرابيشي ؛ ذلك الماركسي الذي فكك خطاب الجابري ، وجعله أثرًا بعد عين لا يستحق الرؤية – رغم أنّه لم يكن له عين أصلًا - فمن سنتّبع في أمورنا إذا كان هؤلاء وغيرهم كثر قد اختلفوا فيما بينهم ؟ إضافة إلى ذلك ، تجدهم عندما يتكلمون عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو أمهات المؤمنين والصحابة رضوان الله عليهم فإنما يستخدمون مفردات أقل ما يمكن وصفها بأنّها قليلة الأدب ، فيقولون محمد قال كذا ، وعائشة قالت كذا وأبو بكر ....الخ بدون أيّ اعتبار للشخص المذكور ، وكأنّهم يخاطبون إنسانًا عاديًا ، لا وزن ولا قيمة ولا مكان له في هذا العالم ؛ ناسين أو متناسين أنّهم سادتهم ومحل فخر واعتزاز كل مسلم في هذا العالم .
وعودة إلى القراءة التي بين أيدينا ، فنلاحظ أنّه من الغريب أنْ نرى هنا بعض المفاهيم غير المعلّلة ، والتي نلحظها في الخطاب الذي نحن بصدد الكشف عنه ، وأعتقد جازمًا أنّ ما سأورده الآن قد جانب الصواب كثيرًا ، وذلك لسقوطه في فخ التعميم والتنفير والبعيد عن الوسطية التي منْ شأنها جذب الآخر للاستماع والقبول فيما هو مطروح للنقاش ، فالقول في كلمات لما يحتاج إلى مجلدات ، والتركيز على النقد دون طرح البدائل ؛ وسيادة العقل على كل ما سواه ؛ يضيّع المعنى ويفقده التواصل ، فنقرأ " فالمؤمنون بعقيدة النقل ، يتجاهلون بأن المنقول - عدا القرآن – هو نتاج عقل بشري !.. كقواعد اللغة العربية ؛ والأحاديث المنسوبة للرسول التي ثبت اختراقها ، وخضعت لمزاج العقل من حيث الرواية ، والتجميع والتصحيح والتفسير " اهـ(12) ولا ندري حقيقة كيف يمكن القبول بهذا الخطاب فيما يخص السنّة النبوية تحديدًا – رغم ما رافقه منْ غمض متعمد لحقوق الآخرين المندرجين تحت هذا التعميم - لأنّ هذا الإطلاق خطأ محض ؛ و لا يسنده دليل ولا يدعمه برهان يؤكده ، صحيح أنّ هناك أحاديث ضعيفة وموضوعة منْ قبل شرذمة من الزنادقة والخارجين على الإسلام ، لكن هذا الأمر تصدى له أهل العلم والحديث ، فصنفوا في هذا علمًا هو منْ أعظم العلوم في العالم على الإطلاق ، بل لم يشهد التاريخ علمًا روعيت في شروطه الدقة والأمانة كما هو في علم مصطلح الحديث ، ولهذا وجدت بين أيدينا الكتب التي لا يدخلها الشك في صحتها وثبوتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، مثل صحيح البخاري ومسلم حصرًا ، إضافة إلى بقية المصنفات القديمة والحديثة منها والتي قام أهل العلم بتصحيحها وتنقيحها ، هذا إلى جانب مسألة مهمة أرى أنّها تلقي الضوء على إصرار الأستاذ أبو بكر في رفضه لأفكار الآخرين ؛ وهو وصف كل شيء ما عدا القرآن بأنه نتاج عقل بشري ، وقد دخل في جملتهم الرسول صلى الله عليه وسلم منْ قول أو فعل أو تقرير فهذه هي سنته ، وكان بالإمكان القول – في حالة نفي هذه المسألة وعدم القصد فيما ذهب إليه - أنْ يستثني الرسول صلى الله عليه وسلم بالقول " ما عدا القرآن وما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم" ومن المعلوم من الدين بالضرورة أنّ ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وما قرره هو حجّة تلزمنا كما يلزمنا القرآن بحجّته وصدقه وعدالته ، فالسنّة الثابتة الصحيحة عند أهل العلم قاطبة هي صنو القرآن وهي حجّة ووحي لا يجوز الفصل بينهما قال تعالى " وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ " (سورة المائدة آية 48) وقال تعالى " وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا " (سورة الحشر آية 7) وقال تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً " (سورة النساء آية 59) وقال أيضًا " فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً " (سورة النساء آية 65) و قال عز وجل " وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى " (سورة النجم آية 3-4) وأيضًا قوله تعالى " وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ") (سورة النحل آية 44) ومنْ هنا يتبين لنا أنّ طاعة الله وطاعة الرسول هما شيء واحد لا يقبل الفصل بينهما ، وثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنّه قال في الحديث الذي رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما حين بلغه أنّه يكتب عنه كل ما يقوله " أكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق " (13) وفي حديث آخر يقول صلى الله عليه وسلم "ألا إنّي أوتيت القـرآن ومثله معه، ألا يوشك رجـل شبعان على أريكته أنْ يقول حين يأتيه الأمر منْ أمري فيما أمرت به، أو فيما نهيت عنه، فيقول: عندنا كتاب الله حسبنا، ألا وإنّ ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله تعالى " (14) وصحّ عنه أيضًا " ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم ، فإنما أهلك الذين منْ قبلكم كثرة مسائلهم ، واختلافهم على أنبيائهم " (15) . وحتى عند المعتزلة أنفسهم ، وهم من فتح باب العمل بالعقل على حساب النقل،استشهدوا بالسنة في إثبات بعض القضايا التي قرروها ، وكانوا في أحايين أخرى يتملصون منْ بعض الأحاديث بحجج واهية لا تقنع أحدًا ، عندما تتعارض مع أهواءهم فيما ذهبوا إليه ، مع أنّهم من أصحاب العقول الذي يقرر على النصّ ما يريد .
إضافة لما سبق فهناك أمرًا آخر؛ وهو أنّه لا يوجد في القرآن ناسخ ومنسوخ إذ يقرر في معرض رده على عضو حاوره فيصرح بقوله .. " ثم من قال بوجود الناسخ والمنسوخ في كتاب الله ! وهذا مثال جيد على النقل ، والذي هو ليس من قول العقل ! فهل تؤمن أنت بأنه لا يجوز لنا مخالفة هذه القاعدة الموضوعة بواسطة السلف حتى لو أثبتنا بالعقل – بالتدبر في التدبر في نصوص القرآن – أنها ليست صحيحة ! أخي الكريم .. لا غنى عن استعمال العقل ! فالتكليف لا يكون لغير العاقل ! " اهـ (16) إلا أنّه وفي أثناء الرد عليه يتجنب الرد هذه المسألة ، التي يتوقف عليها فهم مسائل كثيرة ،كما إنّ خطورة هذا الطرح والذي لم نجد له إجابة - مثلنا مثل السائل الكريم – تتمثل في أنّ هذا القول ليس بجديد ؛ بل قديم جدًا، وقد طرح من قبل المستشرقون الذين وضعوا الكثير من الشبهات حول القرآن الكريم وعلى رأسهم المستشرق دنكان بلاك ماكدونالد ( 1863-194 م ) إضافة إلى تيودور نولدكه (1836 – 1930) (17) والذي قرر أنْ لا ناسخ ومنسوخ في القرآن ، لذلك كنا نتمنى على الأستاذ أبو بكر وبما أنّه طرح هذه المسألة وسئل عنها أيضًا أنْ يجيب عليها ، لأنّها مسألة جد خطيرة ، فإنْ أثبت هذا الأمر طرحنا رأينا واتّبعنا رأيه ، أمّا القول بدون دليل فهذا ما لا نفهمه؛ ولا نفهم لماذا طرح أصلًا مثل هذا الموضوع وتم التغاضي عنه فيما بعد ، وعليه نقول ؛ نعم يوجد ناسخ ومنسوخ في كتاب الله والذي يعني اصطلاحًا " رفع الحكم الشرعي الثابت بخطاب متقدم بواسطة خطاب متأخر" ، والدليل على ذلك من كتاب الله تعالى ، قال تعالى "مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " (23البقرة آية 106) ومنها - على سبيل المثال - آيتي المصابرة في سورة الأنفال " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) (الأنفال 65-66 ) وقد ورد في الصحيح عن أسباب نزول آية 285 من سورة البقرة " وإنْ تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " اشتد ذلك على الصحابة ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وجثوا على الركب ، فقالوا : قد أنزل الله عليك هذه الآية ولا نطيقها ، فقال : أتريدون أنْ تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : "سمعنا وعصينا ؟" بل قولوا " سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير " فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل : " لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها " إلى آخرها وروى مسلم عن ابن عباس نحوه "(18) كما أنّ هناك نسخ أيضًا في السنة ومثاله قوله صلى الله عليه وسلم " كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها " (19) وغيره من الأدلة كثير لا مجال للخوض فيه الآن .
1-التفسير والتأويل
القرآن كما هو معروف " بأنّه اللفظ العربي المعجز بسورة منه المنزل وحيًا على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ المنقول إلينا متواترًا بلا شبهة المحفوظ في المصاحف المتعبد بتلاوته " وتحليل التعريف يقول " اللفظ العربي فيه إشارة إلى أنّ القرآن هو اللفظ والمعنى , وليس المعنى فقط وعلى ذلك إجماع العلماء ، والمعجز بسورة منه : العجز في اللغة الضعف ؛ وأعجزه وجده عاجزًا ؛ ومنه المعجزة لما تظهر من عجز الآخرين وقصورهم عن الإتيان بمثلها " (20)اهـ .
وأمّا السنّة فهي في الاصطلاح الأصولي " ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم منْ غير القرآن منْ قول أو فعل أو تقرير وأمّا حجيتها فهي " دليل أصلي من أدلة التشريع الإسلامي ، وقد ثبتت بالقرآن والسنة والإجماع والعقل " اهـ(21) ، وهذه هي مصادر التشريع الأساسية ، وهي ما نحتاجه بالأصل عند الخوض في أي أمر يتعلق بالدين ومنْ ضمنها التفسير والتأوّيل .
أمّا التفسير فهو في اللغة " الإيضاح والتبيين ومنه قوله تعالى " ولا يأتونك بمثلٍ إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرًا " أي بيانًا وتفصيلًا وهو مأخوذ من الفسر وهو الإبانة والكشف " اهـ(22) وفي الاصطلاح ورغم كثرة التعريفات فإنّها كلها تصب في اتجاه واحد ، فهو كما عرّفه أبو حيان في البحر المحيط بأنّه " علم يبحث عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية والتركيبية، ومعانيها التي تُحمل عليها حالة التركيب، وتتمات لذلك"، وهناك منْ عرفه فقال (الزركشي ) بأنّه: "علم يُفهم به كتاب الله المُنَزَّل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه". والخلاصة أنّ علم التفسير علم يبحث عن مراد الله تعالى بقدر الطاقة البَشرية، فهو شامل لكل ما يتوقف عليه فهم المعنى، وبيان المراد ، ومنْ مصادر التفسير التي يعتمد عليها المفسر أنْ يرجع إلى ما قرره النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ومنْ ثمّ إلى فهم الصحابة رضوان الله عليهم ، ثمّ منْ قوة الفهم والاستنباط لدى منْ يتصدى لهذا العلم ، وأيضًا إلى ما قاله أهل الكتاب - أمّا شروط المفسر فقد سبق وأنْ ذكرتها في بداية حديثي - أمّا التأويل في اللغة فهو " مأخوذ من الأول وهو الرجوع، قال فى القاموس: "آل إليه أولاً ومآلا: رجع، وعنه: ارتد... ثم قال: وأوَّل الكلام تأويلاً وتأوَّله: دبَّره وقدَّره وفسَّره، والتأويل: عبارة الرؤيا" وعلى هذا فيكون التأويل مأخوذاً من الأول بمعنى الرجوع، إنما هو باعتبار أحد معانيه اللغوية، فكأن المؤوِّل أرجع الكلام إلى ما يحتمله من المعاني " اهـ(23) وأمّا في الاصطلاح فهناك تعريفات كثيرة للتأويل لكنها لا تخرج في مجموعها عن الهدف المراد منه ، فنجد عند المتأخرين من المتفقهة، والمتكلمة، والمحدِّثة والمتصوِّفة التأويل - عند هؤلاء جميعاً - : "هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به، وهذا هو التأويل الذي يتكلمون عليه فى أصول الفقه ومسائل الخلاف. فإذا قال أحد منهم: هذا الحديث - أو هذا النصّ - مُؤوَّل أو محمول على كذا. قال الآخر: هذا نوع تأويل والتأويل يحتاج إلى دليل. وعلى هذا فالمتأوِّل مطالَب بأمرين:
الأمر الأول: أنْ يبيِّن احتمال اللفظ للمعنى الذي حمله عليه وادَّعى أنّه المراد.
الأمر الثاني: أنْ يبيِّن الدليل الذي أوجب صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجح، وإلا كان تأويلاً فاسداً، أو تلاعباً بالنصوص." اهـ (24)
وعن الفرق بين التفسير والـتأويل ، فقد ذكر أهل العلم أنّ هناك فرق بينهما وذكروا كثيرًا من الأقوال ولعل أبرزها " هو أنّ التفسير ما كان راجعاً إلى الرواية، والتأويل ما كان راجعاً إلى الدراية، وذلك لأنّ التفسير معناه الكشف والبيان. والكشف عن مراد الله تعالى لا نجزم به إلا إذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن بعض أصحابه الذين شهدوا نزول الوحي وعلموا ما أحاط به من حوادث ووقائع، وخالطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجعوا إليه فيما أشْكِل عليهم من معاني القرآن الكريم.
وأمّا التأويل.. فملحوظ فيه ترجيح أحد محتملات اللفظ بالدليل. والترجيح يعتمد على الاجتهاد، ويُتوصل إليه بمعرفة مفردات الألفاظ ومدلولاتها في لغة العرب، واستعمالها بحسب السياق، ومعرفة الأساليب العربية، واستنباط المعاني من كل ذلك" اهـ(25) .
ومن خلال ما تقدم سنراجع بعض الأمور التي تصدى لها الأستاذ أبو بكر في تفسيره وتأوّيله ، ونرى إلى مدى كان مصيبًا فيما ذهب إليه من آراء واستنتاجات خرج بها ، فقد بلغ عدد الآيات القرآنية والتي استشهد بها 46 آية تتوزع على 22 سورة ، منها ما هو بقصد إثبات قضية ما ، وهذا أمر عادي أنْ نستشهد بآية كريمة لتدعيم وجهة نظر نراها محقة وتتوافق مع الموضوع محل الاستشهاد ، ومنها ما خضع للتفسير والأهم منه التأويل المباشر ، وهذا ما أجده وقد خالف الصواب فيه ، وسنستعرضها ضمن نقاط عدة :
1- شهادة المرأة في مسألة الدين
إنّ أول ما سنتعرض له هو تناوله لقضية الدين والشهود في الآية الكريمة في سورة البقرة والتي تقول " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ –إلى قوله تعالى ... وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى " (سورة البقرة آية 282) ويضيف في معرض تبريره لتفسير هذه الآية " ونحن نعلم أن الفهم السائد والتطبيق المعتمد بناءاً على هذه الآية يقومان على أن شهادة الرجل تعادل شهادة امرأتين ..!ولكن إلقاء نظرة واقعية عفوية محايدة - دون تأثيرات اجتماعية ثقافية أو تاريخية محددة – على نص الآية الكريمة سيطرح بعض التساؤلات الجديرة بالوقوف عندها .." اهـ (26) وبعد سرد مطول لمفهومه لهذه الآية فإنّه يخلص إلى نتيجة مفادها أنّ معنى" أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى " إنما هو ليس ما ذهب إليه المفسرين من للقرآن الكريم بأن المعنى لا يتعلق بالشهادة ؛ بل إن الأمر باستدعاء امرأتين يكون على اعتبار أنه ليس مستساغًا عمومًا وليس مقبولًا اجتماعيا أن تجلس امرأة لوحدها بين الرجال لأن وجودها سيمسها من بعيد أو قريب وهذا ما سيؤدي لحصول شيء من الارتباك والريبة وعلى هذا فالمقصود هو " أن تضل - بمعنى أن تفعل ما يُعاب عليها دون أن تنتبه له .. وفي هذه الحال توجّـب وجود امـرأة أخـرى لتثبيتها وتذكيرهـا - فليس من اللائق أن يُـذكّـر رجلٌ امرأة أخطأت في طريقة جلوسها أو ستر عورتها مثلاً - في مجلس رجالي .. بينما يُرفع الحرج عن التي تضل عندما تذكّـرها أخرى من جنسها " اهـ (27) وبعد ذلك يسوق مبررات أخرى لهذا القول ، ويضيف قائلًا في موضع آخر من النصّ " وأرى أنه من الغريب لغوياً وأدبياً - أن يكون الفهم والتفسير لهذه الجزئية من الآية -( ... أن تضل إحداهما فتذكّـر إحداهما الأخرى .. ) هـو بمعنى أن تنسى إحداهما الشهادة أو تضل في شيء منها - فتذكّـرها الأخرى – عندما تـُطلبـان للإدلاء بالشهادة فهذا المعنى ليس موجوداً على الإطلاق عند قراءة هذه الآية .. بل على العكس تماماً .. فلو لم تتضمن الآية هذا التبرير لوجود المرأتين ( أن تضل إحداهما ) .. ربما كانت شهادة الرجل بشهادة امرأتين – أوضح وأدق وأصح ... إلى أن يصل ... وأما النسيان فلا علاقة له بالأمر هنا ، فهو أمر يرتبط بعامل الزمن وينسحب على الرجل كما المرأة... الخ" اهـ(28) وهذا الأمر أرد عليه من عدة وجوه :
1-لا دليل على ما ورد ذكره لتأويل هذه الآية وهو مخالف أصلًا لمفهوم التأويل عمومًا .
2-إنّ هذا القول مخالف لإجماع أهل العلم والتفسير .
3-إنّ الدفاع عن حقوق المرأة في الإسلام والذي جاء في معرض الرد على أسباب الخوض في تفسير هذه الآية لا يتناسب وهذا المقام بأنْ يؤوّّل و إلى حد مبالغ فيه ومخالف لسياق النصّ معنى "أنْ تضل"، ولو أردنا أنْ نستدل على عدل الإسلام وحقوق المرأة من باب أولى أنْ نذكر الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد ثبت عنه أنّه قال " منْ كان يؤمن بالله واليوم الآخر فإذا شهد أمرًا فليتكلم أو ليسكت ، واستوصوا بالنساء خيرًا ، فإن المرأة خلقت منْ ضلع ، وإنّ أعوج شيء في الضلع أعلاه ، إنْ ذهبت تقيمه كسرته ، وإنْ تركته لم يزل أعوج ، استوصوا بالنساء خيرًا" (29) .
4-إنّ النسيان هنا له ما يبرره لدى المرأة , ومن المعلوم أنّ أهل العلم قالوا أنّ المرأة معرضة للنسيان أكثر من الرجل وذلك لعدة عوامل من أبرزها الحمل ، وقد أثبت العلم الحديث ذلك ؛ إذ يقول أنّ ذاكرة المرأة تصاب بضعف واضطراب أثناء الحمل وذلك يعود لتناقص عدد خلايا الذاكرة ولأسباب غير معروفة حتى الآن ،وقد عدت هذه الآية الكريمة كإعجاز علمي في القرآن لذكره هذا الضعف قبل نحو 1400 عام ( 30) .
5-وعلى فرض أنّ كل ذلك غير صحيح ، فإن الأسلم والأحوط هو أن نتّبع ما دلّ عليه سياق اللفظ و الآية عمومًا ، وأنْ نرجع للتفاسير المعتبرة والتي تؤكد خلاف هذا التأويل ، وهنا نسأل هذا السؤال : من نتّبع في هذه المسألة إذا كانت كل التفاسير قالت عكس ذلك ؟ ولنراجع تفسير ابن كثير ، الطبري ، القرطبي ، البيضاوي ، البغوي، المنتخب ، زبدة التفاسير ، التفسير الميسر ، الجلالين ، وللعقل نحتكم :هل كل هؤلاء ومن قبلهم الصحابة رضوان الله عليهم لم يفهموا المقصود بهذه الآية الكريمة ؟ . يتبع/ ج 2