مصر الكنانة وكلمة حق
أثارت أحداث غزة الأخيرة وموقف النظام المصري المعلن سواء بالمشاركة في قهر حماس وإعلان الرغبة في القضاء عليها أو في إغلاق معبر رفح إمعانا في حصار الشعب العربي المسلم في غزة خدمة لأجندة خاصة تتماهى مع أجندة العدو وتتعاضد معها. هذا الموقف دفع الكثيرين من أبناء الأمة الأحرار والغيورين للتعبير عن الغضب الكبير تجاه هذا الموقف من الشقيقة الكبرى التي تحتل في القلوب جميعا المكانة الأثيرة والتقدير العظيم بما يليق بمكانتها وعظمتها ، والمؤسف أن انزلق البعض في خطيئة الخلط في اللوم بين النظام الحاكم في مصر ، ومصر وطنا وشعبا ودورا حتى لقد كاد النزاع والتخالف أن يزلقنا ببصره ويشمت بنا الأعداء.
ولأن ما حدث من تخلي النظام الحاكم عن دور مصر الريادي عربيا وإسلاميا كان جورا بينا رفضه الجميع فإن من باب الإنصاف أن لا نعيب خلقا ونأتي بمثله وأن نرد جورا بجور مثله. ولهذا أجدني أقف اليوم موقف المدافع عن مصر شعبا ووطنا المنافح عن دورها ومكانتها على مدى التاريخ دينيا ووطنيا وأخلاقيا وإنسانيا.
أما تاريخيا فلقد حفر التاريخ اسم مصر في صخر الضمير الإنساني بحروف من نور كأحد مواطن بناء الحضارة الإنسانية على مدى الأيام وكمركز قيادي للعالم حينا وللمنطقة الإقليمية أحيانا أخرى حتى لتعتبر مصر إحدى أهم الدول التي كتبت التاريخ كما كتبها. إن عصر الحضارة الفرعونية يقف لا يزال شاهدا على بعض سطور التاريخ خاطا في طروسه قيادة مصر للعالم في ذلك الحين ثم تكرار ذلك في عهد حكم النبي يوسف عليه السلام إذ قال لربه كما ورد في كتاب الله (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) مرورا بالدول والممالك التي كان لها دور قيادي ومؤثر في تحديد ملامح التاريخ بما أورث مصر دورا قياديا ورياديا لا يمكن الطعن فيه أو التقليل من قدره.
أما دينيا فما ورد في فضل مصر كثير وكبير ، وإن كان هناك بعض خلاف على صحة أحاديث وردت في فضل مصر مثل (مصر كنانة الله في أرضه ما طلبها عدو إلا أهلكه الله) ومثل (إذا فتح الله عليكم مصر بعدي فاتخذوا فيها جنداً كثيرا، فذلك الجند خير أجناد الأرض) ، وإن كان أحد قد يشكك في سند الحديث ("إنكم ستقدمون على قوم جُعد رؤوسهم، فاستوصوا بهم خيرا، فإنهم قوة لكم، وبلاغ إلى عدوكم بإذن الله عز وجل) فإن أحدا لا يمكن بحال أن يشكك في صحة قول الله تعالى (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ) وقوله تعالى (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) وذكره مصر في عدة مواضع أخر كأكثر البلاد ذكرا في القرآن وكفى بذلك فخرا ودليلا على قدر مصر ومكانة مصر.
وإن كان لم يثبت للبعض صحة السند فقد أثبتت الأحداث عبر التاريخ صحة المعنى فكانت مصر كنانة الله ، وكان شعبها خير أجناد الأرض وليس أدل على ذلك من أن أجناد مصر هم من خاضوا أهم معارك الأمة الفاصلة بعد عهد الخلافة الراشدة وحققوا النصر في معارك كان النصر أشبه بسراب أمام جيوش تجبرت بقوة طاغية مهلكة لعل أشهرها معركتي عين جالوت ضد التتار وحطين ضد الصليبيين. لقد انتصرت الأمة بجيش مصر وجنود مصر ودور مصر.
وأما شعب مصر فهم أكرم الشعوب نفسا وأطيبهم معشرا وأصدقهم ودا أشهد لهم بهذا من خلال علاقات كثيرة على مدى سنوات عديدة ، ويشهد لهم كل منصف ممن جربهم وعرفهم بل وغير ذلك حتى لكأن الأمة اجتمعت على حب هذا الشعب العظيم ولكأن الله تعالى قد جبل القلوب على هذا الحب حتى أصبح سمة من سمات الأمة أن تجتمع على حب مصر وشعب مصر. وإن كان هذا الذي نقول في عصر هو الأدنى في تاريخ هذا الشعب العظيم بعد أن تعرض لمؤامرات التجويع والتجهيل وتعرض لسوط البطش والقمع والترهيب فلعل العقل يدرك كيف كان هذا الشعب يوم أن ملك قوته وأمن يومه وتحرر قراره وحاز على كل عوامل العزة والأنفة والإباء والشموخ.
لقد أكثر العديد في إرجاع حب مصر أرضا وميل النفوس لها بمقولتهم المشهورة أن سبب حب العودة لزيارة مصر هو الشرب من ماء النيل ، وأنا هنا أدحض هذا القول أكان جدا أم هزلا لأؤكد أن السبب الحقيقي في تقديري هو شعب مصر وطيب معشرهم ودفء لقائهم. وهذا الشعب العظيم كان ولا يزال في طليعة الأمة اهتماما بقضايا الأمة عموما وقضية فلسطين على وجه الخصوص ، ورغم ردنا مقولة البعض بأن مصر خاضت الحروب حديثا من أجل فلسطين وقول بعضهم "كفاية كده" عليهم إلا أنني رأيت وسمعت وعلمت من جميع شرائح ومستويات شعب مصر موقفا واحدا داعما بشدة لفلسطين وللقدس على وجه العموم ولغزة على وجه الخصوص ورفضهم التخلي عن الشعب وغضبهم من إغلاق معبر رفح رغم الحملات الإعلامية الحكومية المكثفة للتشويه والتشويش بجعل حماس وغزة هي العدو المباشر لمصر وأمنها القومي وليس إسرائيل. ولقد استمعت للكثير من شهود العيان على مدى اندفاع الشعب المصري العظيم للتبرع بكل ما يملكون رغم شظف عيشهم حتى ليقتسموا ما يجدون مع أحبتهم في غزة بقصص تسيل مدامع الوفاء انبهارا بهذا الحس النبيل.
وإن كان من يعيب على هذا الشعب تقصيرا دون أن يعينه على أمره وييسر له الظروف المواتية التي تظهر معدنه الأصيل فلينظر إلى واقع الأمر بإنصاف وليبحث عن الكثير من عوامل أخرى تسهم في كل ما أصاب الأمة من نصب ووهن وأسى. وإن كان من يطالب الشعب المصري في ظل سياسة البطش والقمع والطغيان أن يثور أو ينقلب فهو بهذا إنما قد ظلم وجهل وأخطأ وتجاهل قول الله تعالى (والفتنة أشد من القتل) ونحن أبعد ما نكون عن الحاجة لفتنة في مصر الكبيرة قدرا وقدرة ودورا والتي ستظل دوما الانعكاس الحقيقي لحال الأمة فإن انكسرت مصر لا سمح الله انكسرت بها الأمة وإن انتصرت مصر بإذن الله انتصرت بها الأمة.
هي كلمة حق تنتصر للصواب وتضع التبعة على من أساء لمصر وطنا وشعبا ، وتضع مصر الوطن ومصر الشعب أمام مسؤولياتها التاريخية ومكانتها الأصيلة والبحث عن دور مصر كشقيقة كبرى وقائدة للأمة والانتصار لقرارها الحر دون ارتهان أو امتهان.
تحياتي